يحلو للبعض أن ينْعت الدّيمقراطيّة باللّيبراليّة السّياسيّة، فتراهُ - متنفِّلاً في الإبانة والتّعليل - ذاهباً إلى البحث عن الأصول الفكريّـة للفكرة الدّيمقراطيّة، واجداً إيّاها في الفكر السّياسيّ اللّيبراليّ الحديث.
من المتقـرِّر عندنا أنّ المماهاة بين الدّيمقراطيّة واللّيبراليّة اختراعٌ محضٌ لعلاقةٍ لا دليل عليها من الواقع، وزعـمٌ باطلٌ لا يجوز. إنّه فصلٌ من فصول سرديّـةٍ ليبراليّة لم تفتأ تكلّف النّفس مشاقَّ نسبة فتوحات العصر الحديثِ جميعِها إلى اللّيبراليّة؛ كأنّ التّاريخ بها بدأَ بَدْأَتَه الحديثة الجديدة! وليس في هذه الرّواية المكذوبة ما يَحْتَـجُّ به القائلون بها لمقالتهم سوى أنّ نشأة النّظام الدّيمقراطيّ تزامنت مع اتّساع نطاق اللّيبراليّة الاقتصاديّة البرجوازيّة فكان النّظامُ ذاك «وجْهاً سياسيّاً» لتلك اللّيبراليّة. وهذه روايةٌ دون اجتراحِ حُجِّيَّـةٍ لها - من قِبَـل مَن يلوكونَها - خَـرْطُ القَـتَاد!
نحن لا ننفي، طبعاً، مساهمة الطّبقة البرجوازيّة في إقامة النّظام الدّيمقراطيّ وتعزيزِه؛ فلقد كان وسيلتَها الأساس لإزاحة الأنظمة الاستبداديّة في أوروبا أو تحجيم قواها وتقليص سلطاتها التي كانت مطلقة. لكنّها بمقدار ما توسّـلتْه سلاحاً أصرّت على أن تَخيط ثوبَهُ على مقاسها لفترةٍ من الزّمن طويلة امتدّت من نهايات القرن الثّامن عشر إلى بدايات القرن العشرين؛ فكانت مؤسّسات التّمثيل مغلَقة في وجه غيرها من الطّبقات والفئات إلى أن فُرِض عليها دخولُ هذه القوى الجديدة مسْرَحَ التّمثيل الدّيمقراطيّ، لتتحوّل الدّيمقراطيّة بذلك إلى شكلٍ من السّلطة الشّرعيّة اصطنعتْه لها طبقاتُ المجتمع كافّـة لا طبقةٌ واحدة بعينها.
ولمّا كانتِ الحرّيةُ جوهرَ النّظام الدّيمقراطيّ، بل جوهر نظام الدّولة الوطنيّة، فقد نُظِر إليها بوصفها ثمرةً من ثمرات اللّيبراليّة وسمةً من أظهر سماتها فكراً سياسيّـاً ونظاماً اجتماعيّـاً- سياسيّـاً. ولقد زاد من ترسيخ وهْم صحّـة الرّابطة بينهما الاعتقادُ الخاطئ بأنّ المذهب الذي حَمَل اسْمَ اللّيبراليّة إنّما اشتقّ اسمَه من الحرّية (Liberté, Liberty)، فكان اسمُهُ ذاك قرينةً على قيامه عليها وعلى مركزيّة قضيّـتها في نظامه الفكريّ والاجتماعيّ. ومع أنّـنا لسنا ننفي صلة اللّيبراليّة بنوع محدَّدٍ من الحرّية، إلاّ أنّ الغالب على ذلك النّوع من الحرّية أنّه يوجد في حالةِ تناقُضٍ مع ما هو جوهريّ في الحرّية: وجهُها السّياسيّ.
إنّ الحرّية الوحيدة، في المعتقد اللّيبراليّ، التي هي موْضِـعُ دفاعٍ من قِـبَله هي الحرّية الاقتصاديّة: حرّية التّملُّك والعمل والتّجارة والاستثمار. على هذه كان مَبْنى المذهب اللّيبراليّ منذ أطلّ على العالم في القرن السّابع عشر. ولقد استفادتِ اللّيبراليّة، في تعضيد مركزها كإيديولوجيا ثمّ كنظامٍ اجتماعيّ- اقتصاديّ، من توسُّـع نطاق انتشار العلاقات الرّأسماليّة للإنتاج في مجتمعات أوروبا الحديثة وقيام أنظمةٍ رأسماليّة قويّـة فيها (بريطانيا، فرنسا...) وأنظمة سياسيّة أقامتها برجوازيّاتُها وأدارت ذلك النّظام الرّأسماليّ المبنيّ على مبدإ الحرّية الاقتصاديّة والتّنافس والسّوق...إلخ. هذا وحده كان معنى الحرّية في خطاب اللّيبرالـيّة، وظلَّ كذلك لآمادٍ من الزّمن. وقد تَولَّـد من القول به أنّ معنى الحقّ في الحرّية ضاقَ اجتماعيّاً إلى الحدّ الذي كان فيه ذلك الحقّ - في عقيدة اللّيبراليّة - حقّـاً حصريّـاً للطّبقات المالكة: المنخرطة في الحرّية الاقتصاديّة واستثمار رؤوس الأموال... من دون سواها من طبقات المجتمع الأخرى!
ليس هذا شأن الحرّية السّياسيّة - وهي جوهر النّظام الدّيمقراطيّ وأقوى أساساته - ولا هذا ممّا يعني اللّيبراليّةَ في شيء حتّى لا نقول إنّها ممّا تناهضه اللّيبراليّةُ وتَـحُول دون إقراره لاصطدام مصالحها بوجوده: أي بوجود حرّيةٍ سياسيّة في المجتمع السّياسيّ. تعرف اللّيبراليّة، أكثر من غيرها، أنّ الدّولة وحدها هي التي تصطنع نظاماً قانونيّـاً للحرّية السّياسيّة (= الحرّيات العامّة)، ووحدها تستطيع أن تحميَه بالضّمانات؛ أي أنّ هذه الحرّية دولتيّة وبالتّالي، فقد تُقـيِّـدُ الحرّيةَ الاقتصاديّة أو تضع أمامها الكوابح. وليس التّقييد والكبْحُ ذيناك من أفعال القانون، فقط، ذلك الذي يرسم للحريّة الاقتصاديّة حدوداً وسقوفاً لا يسَعُها تخطّيها، بل لأنّ الحريّة السّياسيّة تضع في حوزة المواطنين حقوقاً في كبْح جِماح تَغـوُّلِ اللّيبراليّة الاقتصاديّة واندفاع قواها إلى خدمةِ مصالح طبقاتها الاجتماعيّة على حساب طبقات المجتمع الأخرى. ماذا يكون الحقّ في تكوين النّقابات، مثلاً، وفي الانتماء إليها، والحقّ في الإضراب عن العمل... إنْ لم يكن ذلك الحقّ التي تكفله الدّولة ويدخل في جملة الحريّات العامّة التي قـد تتعارض مع حريّة الاقتصاد اللّيبراليّة؟