سيبقى سؤال كبير ستطول الإجابة عليه بشأن الحيثيات التي دفعت "القسام" للقيام بعمليتها العسكرية في 7 أكتوبر الجاري وبشأن انهيار وسائل الردع الإسرائيلي في ذلك اليوم. من الأسئلة ما هو مرتبط بخطّة حماس ما بعد الهجوم وما كانت تتوقعه وما تُعِدُ له، ومرتبط بأجندة إسرائيل في الاستعداد لحربها داخل قطاع غزة والقدرة على الذهاب بعيدا بها.
غير أننا نستنتج نتائج الفعل ونراقب ما بعده ولا نرى في ردود الفعل الإسرائيلية والإقليمية والدولية ما هو مفاجئ أو غير تقليدي. بمعنى أن من خطّط للعملية كان يعرف جيداً ما سيليها ولا يمكن أن يكون قد انتظر غير ذلك ما يطرح أسئلة بشأن المرحلة الغزية من معركة غلاف غزة. ولئن شنّت إسرائيل بشراسة غارات تدميرية ضد غزة في حروب سابقة، فإن انتهاج خيار أكثر تدميرا وشراسة هو من أبجدياتها المعتمدة والمتوقّعة التي تحظى هذه الأيام فوق ذلك ببيئة دولية مشجّعة متفهّمة وحاضنة.
وفيما أن الحرب في تعريفها الأكاديمي هي "شكل من أشكال السياسة"، فإن كتّاباً إسرائيليين وغربيين يتساءلون حول وجود السياسة أو منافذ لها في المعركة البرية التي تهوّل بها إسرائيل ضد غزة برعاية أساطيل غربية (أميركية بريطانية على الأقل).
يعود بيتر سنجر الفيلسوف الاسترالي الأستاذ في جامعة برينستون في الولايات المتحدة إلى شيء من التاريخ لتفسير ما حصل في 7 أكتوبر. يقول "إن الفرصة الحقيقية الأخيرة لتجنب الصراع المأساوي بين إسرائيل وحماس قد دمرتها عملية قتل واحدة: اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في عام 1995".
يضيف: "لم يكن القاتل ناشطا فلسطينيا، ولكنه متطرّف إسرائيلي يعارض اتفاقيات أوسلو، التي سعى بموجبها رابين إلى صفقة من نوع ’الأرض مقابل السلام‘. كانت الصفقة لعنة على المتطرفين الإسرائيليين، الذين يعتبرون أنه لا يمكن التفاوض على السيادة اليهودية في الأرض المقدسة".
في هذا السياق يدلي وزير الخارجية الإسرائيلي شلومو بن عامي بدلو يسعى من خلاله إلى إعطاء تفسير يستشرف فيه ما بعد معركة غزة. يقول إنه "باستبعاد أي عملية سياسية والتأكيد، في المبادئ التوجيهية الملزمة لحكومة بنيامين نتنياهو على أن -الشعب اليهودي له حقّ حصري وغير قابل للتصرف في جميع أنحاء أرض إسرائيل- جعلت هذه الحكومة المتعصبة إراقة الدماء أمرا لا مفر منه".
وإذا ما انتهجت إسرائيل، لاسيما منذ سيطرة اليمين على الحكم في العقود الأخيرة، وخصوصا من قبل الحكومات التي ترأسها نتنياهو، الخيار الأمني للتعامل مع "الحالة" الفلسطينية، وإذا ما يعترف متخصصو الشرق الأوسط في العالم، وحتى في إسرائيل والولايات المتحدة، بأن غياب المنافذ السياسية يقف وراء ظاهرة حماس والعنف و"الإرهاب"، فإن حلا أمنيا موعودا في غزة لن يحمّل علاجاً حقيقيا للمأساة في هذه المنطقة.
يقول ريتشارد هاس الدبلوماسي الأميركي والرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية في هذا الصدد إنه "بينما يجب أن يكون هناك عنصر عسكري لردّ إسرائيل على تحدّيها الأمني، لا يوجد ردّ عسكري فقط. وسيتعين إدخال عنصر دبلوماسي في المعادلة، بما في ذلك خطة إسرائيلية ذات مصداقية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة".
قد يكون مبكّرا في عزّ المواقف الغربية الانفعالية العاطفية صعود أصوات، حتى بمواكبة دعم إسرائيل وإدانة ما تعرضت له في 7 أكتوبر، توحي بضرورات فتح ثغرات في الجدار المانع للتفاوض واستكشاف سبل التسوية.
حتى أن رواج شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" يمنع هذه الأيام تسريب أي تعابير عن تسوية سياسية أو مستقبل سلم محتمل داخل التصريحات والنصوص الرسمية التي تصدر عن العواصم الغربية أو عن المسؤولين الغربيين الذي يزورون إسرائيل هذه الأيام. أخذت المعارضة اليسارية في فرنسا على بيانات وزارة الخارجية الفرنسية والإليزيه خلوها من الدعوة إلى وقف إطلاق النار وغياب كلمة "سلام" عن نصوصها.
ومع ذلك يستمر التعويل على مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تسقط فيها الخيارات الأمنية التي لم تجلب أمنا لإسرائيل، بل كارثة غير مسبوقة في تاريخها.
تكفي متابعة ما تكتبه أقلام إسرائيلية (قبل تلك التي ظهرت في العالم) في عزّ موجة التضامن مع إسرائيل عن الحاجة إلى حلّ فلسطيني، لاستنتاج ما سيتشّكل من ضغوط دولية، غربية خصوصا. ستنهل هذه الضغوط من حزم غربي مندّد مستنكر شاجب لما تعرّضت له إسرائيل من أجل تحقيق تحوّلٍ إسرائيلي، قد يدفع ثمنه نتنياهو نفسه، للذهاب نحو مقاربات أخرى للعلاقة مع المسألة الفلسطينية ومستقبل إسرائيل في الشرق الاوسط.
ومع ذلك يتخوف باراك بارفي وهو باحث سابق في مؤسسة New America في شؤون الشرق الأوسط من عدم استخلاص عبر الحدث الدراماتيكي الكبير.
يقول: "بعد حرب يوم الغفران عام 1973، أدى إدراك إسرائيل أنها لم تكن منيعة إلى وضع البلاد على طريق السلام مع مصر. أكبر مأساة في الحرب الحالية ستكون عدم القدرة على فعل الشيء نفسه مع الفلسطينيين".
ووفق مشهد الارتجال وعدم اليقين تعيش غزة أياما مأساوية من دون أي ضمان بأن تفرج الأيام ما بعد الحرب عن مستقبل واعد. والواضح أن الوضع الداخلي الإسرائيلي كما الموقف الدولي شديد التحوّل كل يوم وسينقلّب من طور إلى طور كلما طال زمن الحرب في غزة. والواضح أيضاً أن تجاوز صدمة 7 أكتوبر ستعيد العقل إلى المزاج الدولي العام لإعادة تقييم للحدث تأخذ بالاعتبار أن تاريخ حدوثه يعود لأسباب تتعلق بعقود من الاحتلال ولا يمكن اقتصار تفسيره على ما حدث في ما تصفه إسرائيل بـ "السبت الأسود".
ومن يراقب نتائج جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في عواصم المنطقة يستنتج موقفا عربيا واحدا رافضا لحرب ضد غزة باتت يعتبرها المعارضون اليهود حرب إبادة ويعتبرها الفلسطينيون نكبة جديدة. وما سمعه بلينكن سيصل صداه إلى المواقف في واشنطن نفسها التي يفترض أن يكون لديها خطة ما بعد الحرب.