منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، خاض العالم العربي عدة صراعات لتحقيق مطلب الاستقلال، وما أعقبه من السعي نحو بناء الدولة القومية الحديثة بحدودها الجديدة. في كل هذه المراحل، وحتى الآن، مازال هناك صراع آخر قائم وإن اختلفت أغلفته الأيديولوجية لإخفاء أو تسويق أهدافه الجيوبوليتيكية لعدة قوى متصارعة داخل العالم العربي وعليه.

الأيديولوجية لخدمة الجيوبوليتيك

ظهرت العروبة في المنطقة ضمن سياق عالمي كانت تستعيد أو تنشئ فيه الجماعات البشرية تصوراتها الخاصة المتخيلة لبناء أمة قادرة على تمييز نفسها في ظل تراجع زمن الإمبراطوريات. كانت العروبة إطار جامع قائم على أساس اللغة والجغرافيا لا العرق أو الدين والمذهب، وبالتالي تحقق مطلب المساواة الذي كان مفقودًا في ظل الحكم التركي العثماني.

في مرحلة الخمسينات والستينات، تم استغلال الانتماء العربي المشترك لشعوب المنطقة، وبدلا من بناء مشروع استراتيجي لخلق منظومة أمن جماعي وتعاون اقتصادي وترابط ثقافي، حوله البعض لأيديولوجية متنازع عليها تخفي خلفها مشروع جيوبولوتيكي حول زعامة العالم العربي والتحكم في قراره.

بعد قيام الثورة الإيرانية، سحق التيار الديني بلا رحمة باقي التيارات الأخرى التي شاركت في صنعها، وكرد فعل صعد التيار الديني العربي الذي كان بالفعل قد نما قبلها منذ فترة، نتيجة ما تلقاه من دعم لمواجهة الفكر القومي، وساد المشهد في المنطقة.

كان الغزو العراقي للكويت، بمثابة رصاصة الرحمة الأخيرة للأيديولوجية القومية، ونهاية لمشروعها الجيوبولوتيكي، لتصبح مجرد أداة للحكم الاستبدادي المطلق.

أضاف الغزو الأمريكي للعراق مزيدا من القوة لتيار الإسلام السياسي بنسخه المختلفة، بعد صعود الخطاب الطائفي على وقع هيمنة إيران على عدة عواصم عربية، وصولا لإعلان دولة الخلافة المزعومة عام 2014.

مشروع بلا محور ومحور بلا مشروع

بعد موجة ما يسمى "الربيع العربي" وما أعقبه من أحداث دموية، أخذت دول الخليج العربية (السعودية والإمارات) على وجه التحديد، زمام المبادرة في المنطقة، وتصدوا لهذا المشروع، وتبنى قادتها رؤى بديلة لمشاريع للازدهار والتنمية، وعلى أساس هذه الرؤى جرى وضع تصور جديد للسياسات الخارجية.

يمكن القول إن ما نتج عن كل هذه الصراعات على مدار 67 عاما، مشروع لبناء عالم عربي يستعيد مكانته المفقودة منذ العهد العباسي الثاني عام 847، مستغلا لحظة التحولات الكبرى في النظام العالمي، وهو ما عبر عنه بوضوح ولي العهد السعودي، الشرق الأوسط سوف يكون "أوروبا الجديدة" في العصر الحديث. والمقصود هنا لا التشبه بأوروبا بل قيام نهضة على أسس عربية مماثلة لتلك التي شهدتها أوروبا من قبل، وهي نفس الرؤية التي بادرت إليها دولة الإمارات منذ تأسيسها وصولا للرؤية التي وضعتها عام 2021.

مقابل هذا المشروع الواضح محدد الملامح، غير المقتصر على السعودية والإمارات ولا منطقة الخليج العربية بل يشمل كامل المنطقة من المحيط إلى الخليج، يوجد محور قوي ومتماسك يضم عدة دول وجماعات مسلحة وأحزاب سياسية، وداعمون ومؤيدون داخل العالم العربي، لكنه بلا مشروع ولا رؤية لمستقبل الشعوب ومآلات ما يدعو إليه من صراع دائم، إلا ضمان نفوذ وقوة النظام الحاكم وهيمنة دولة واحدة على مقدرات المنطقة.

خلق هذا الوضع حالة فريدة من نوعها، مشروع للشعوب يراعي مصالحها ومستقبلها بلا محور وشعبية تتناسب مع حجم ما يطمح إلى تقديمه من ازدهار وتنمية لشعوب المنطقة، مقابل محور بلا مشروع وآثاره السلبية بل والمدمرة لم تترك شعبا سيطر عليه، ولكنه يمتلك شعبية لا يستهان بها، وصوت عالي وأدوات تمكنه من وضع العصا في العجلة لتعطيل مشاريع التنمية العربية.

مقترح الوفاق الثلاثي

نظرا لأن القوى الرئيسية في العالم العربي قد تعرضت لعدة ضربات متتالية منذ عام 1991، وتحمل الخليج وحده عبء هذه المواجهة منذ عام 2003، كانت الأولوية صد الهجوم. بعد فترة وجيزة من الهدوء، خرجت مشاريع الرؤى لتبصر النور، لكنها بحاجة لقوة تساندها من نسيج المنطقة.

الوفاق الثلاثي المقترح، الذي يضم (السعودية والإمارات ومصر) لا يعني اختزال العالم العربي فيهم ولا استثناء البقية، لكن وعبر التاريخ أي محور جديد يتشكل للدفاع عن مشروع يتبناه، لا بد له من قاطرة تمثل أصحاب وجهات النظر المتشابهة (التشابه لا يعني التطابق)، ليكون أكثر تجانسا وقدرة على اجتذاب البقية بشكل تدريجي، ليتحول لمحور واسع النطاق قادر على البقاء والتماسك وقت الأزمات.

تمثل السعودية والإمارات ثقلا ماليا، وجزيرتي استقرار وسط محيط هائج من العواصف، وعلاقات دولية متميزة مع الشرق والغرب، وشرعية دينية سعودية لا يملك أحد منازعتها عليها، وشرعية إنجاز إماراتية أثبتت نجاحها عبر التجارب حتى صارت نموذجا عالميا يحتذى به. بينما تقع مصر في قلب العالم العربي، بين مشرقه ومغربه، وبوابته نحو السودان ومنها لقلب إفريقيا، ومعها ثقلها التاريخي والسكاني وقوة جيشها.

الأيديولوجية ليست بالضرورة شرا مطلقا، بل هي وسيلة وليست غاية، هدفها تبسيط أهداف ومصالح الدولة الأمنية والاقتصادية والجيوبوليتيكية، بطريقة سهلة يمكن للمواطن العادي أن يفهمها، مع شيء من العاطفة لحشد الجماهير خلفها.

أحد أكبر الثغرات التي خلقت مشكلات عدة لأنظمة الاستقرار العربي ما قبل عام 2011، تخليها التام عن الأيديولوجية لشرح أهدافها لشعوبها، نتيجة ميراث طويل من الاستخدام السيء لها. أدى هذا الوضع لخلق معضلة كبرى، إما التماهي مع العواطف الشعبية المعرضة بشكل دوري في أوقات الصراعات والأزمات للاستثارة أو اتخاذ قرارات غير شعبية تُستغل لإثارة سخطها، فأصبحت الحكومات مطالبة إما بتملق الجماهير أو ما يبدو تحديا لها ولإرادتها.

الخاتمة

المنطقة الآن في حالة إرهاق شديد، وهناك جيل جديد شاب يرغب في التنمية والازدهار والتقدم ومحب للسلام، لكنه عرضة بشكل دائم لتأثيرات دعائية تساعد عليها الأزمات المتلاحقة بالمنطقة، والظلم الواقع على شعوبها، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني.

نجح التحالف المصري السعودي الإماراتي في تجنيب المنطقة ويلات السقوط الكامل، لكن هذا التحالف الظرفي قد يكون من المفيد تحويله لوفاق ثلاثي، وإعادة تثقيف الجماهير بما يحمله هذا الوفاق من معان.

في مقاله الأخير بمجلة "فورين أفيرز"، أشار وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس بشكل ذكي وحكيم، إلى ملاحظة فرانكلين روزفلت أن "أعظم واجب على رجل الدولة هو التثقيف"، وذلك في معرض حديثه عن ثغرات الخطاب السياسي الأميركي في الداخل والخارج.

المنطقة بحاجة لعملية تثقيف جديدة لتعريف الشعوب بطبيعة العلاقات الدولية، وأن زمن التحالفات الصارمة قد ولى إلى غير رجعة، وحل محلها تحالفات فضفاضة أو بالأحرى "وفاق" حول سياسات عليا متفق عليها مع هامش للاختلافات دون تحولها لخلافات، وتنوع في إطار تقسيم الأدوار، وهو ما ظهر بوضوح في بيانات كلا من مصر والسعودية والإمارات، بشأن الأحداث الدائرة حاليا في غزة.

ما يسمى "التطابق" في وجهات النظر بشكل دائم، لا وجود له في العلاقات الدولية سوى في علاقات السادة بالأتباع لا بين الدول الحرة المستقلة، والاختلافات لا تعني القطيعة، كما هو سائد من نظرة حدية لدى غالبية الشعوب العربية.

ليس عبثا أن خرج كافة الأنبياء والرسل من هذه المنطقة، والعقيدة الإبراهيمية بنسخها الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام. يشير هذا إلى مدى أهمية العقيدة، وحاجة شعوب المنطقة لإيمان ما يدفعهم للدفاع أو النضال لتحقيق ما يتم دعوتهم إليه، وهنا يأتي دور الأيديولوجية لتكون وسيلة لا غاية، وتقديمها بشكل رشيد لتتجاوز إرث الماضي الكئيب.

في هذه اللحظة المفصلية، يتوقف مصير المنطقة أولا وقبل كل شيء، على مدى قدرة الدول الثلاث على العمل والتنسيق فيما بينها، واستغلال نقاط قوة كل طرف، لتجاوز الأزمة الحالية، والبدء في الإعداد لهذا المحور الجديد، وإعادة تفعيل دور الجيش المصري وقوته ليتحول لقوة ردع حقيقية من داخل المنطقة ونسيجها مع الجيشين السعودي والإماراتي، تساند هذا المشروع، مقابل عناصر القوة المتعددة لدى بلدان هذا الوفاق المقترح، للخروج برؤية شاملة يسهل على الشعوب فهمها واستيعابها، وهو ما يحتاج لنقاش طويل بين السياسيين والخبراء والباحثين، قد يكون من المفيد الشروع فيه بشكل عاجل.