75 عاما خلت على تأسيس دولة إسرائيل، وأعمال القتل والتدمير مستعرة في فلسطين، راح ضحيتها حتى الآن مئات الآلاف، مدنيين وعسكريين، أطفالا وشيوخا ونساء، وتشرَّدَ بسببها ملايين الفلسطينيين، بينما بقي الحل عصياً.
أسباب تعثر الحل كثيرة، منها التفرق الفلسطيني والعربي، وإساءة قراءة المواقف الدولية، والمبالغة في قدرة العرب على حسم النزاع عسكريا، وعدم القدرة على مخاطبة العالم بلغة مدروسة وهادئة، ما أعطى صورة مغايرة للواقع، بل قدم للجانب الآخر حججا كثيرة نفعته في تعزيز مواقفه، الإعلامية والعسكرية.
لكن هناك سببا آخر مهما لاستمرار دوامة القتل والتدمير، ألا وهو وقوف الدول الكبرى في العالم إلى جانب إسرائيل مهما فعلت، ظالمة كانت أم مظلومة، وقد رأينا هذا الموقف يتكرر في الحرب الأخيرة بين حركة حماس وإسرائيل.
صحيح أن حماس بدأت الهجوم، لكن عدم اكتراث العالم لمأساة الفلسطينيين، وغياب أي حل في الأفق للمشكلة، يجعل من العنف متوقعا.
أمريكا ترسل حاملة الطائرات (جيرالد فورد) لتزويد إسرائيل بالإمدادات الضرورية لمواصلة الحرب، وتقف بقوة إلى جانب إسرائيل، دون أن تُطلِق كلمة تعاطف مع المدنيين الفلسطينيين، الذين يكتوون بنار القصف الإسرائيلي، ولا دخل لهم في إشعال الحرب.
وفي بريطانيا، يُرفع العلم الإسرائيلي ضوئيا على مبنى رئاسة الوزراء، لأول مرة في التأريخ، ويعلن رئيس الوزراء، ريشي سوناك، موقفا مساندا لإسرائيل، دون أي إشارة للظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، خلال 75 عاما من احتلال إسرائيل الأرض الفلسطينية، أو انتهاكها القانون الدولي، وخرقها مواثيق حقوق الإنسان، وقتلها المدنيين، واستمرارها في بناء المستوطنات، في توجه متواصل لالتهام الأرض، ورفضها أي حل للقضية، حتى تلك الحلول التي طرحتها الأمم المتحدة ووافق عليها المجتمع الدولي، ناهيك عن المبادرات العربية الكثيرة للسلام.
وبغض النظر عن الموقف من حركة حماس، وأيديولوجيتها الدينية المتشددة، والدول الداعمة لها، فإن أعضاء حماس وأتباعها فلسطينيون، تعرضوا للظلم، كباقي أبناء فلسطين، الذين تجاهل العالم قضيتهم، متوهماً بأن التجاهل سوف يُنسيهم قضيتهم، ويمحو الجرائم التي ارتُكِبت بحقهم، وأن الزمن كفيل بنسيان هذه القضية، التي لها أبعاد كثيرة: قومية ودينية وقانونية وإنسانية وتأريخية.
لقد تأسست حركة حماس ونمت بعد أن فشلت كل الحلول السلمية للتعايش مع إسرائيل، وأخفقت المفاوضات لإيجاد حل قابل للحياة، ولم تُجدِ التنازلات نفعا مع التشدد الإسرائيلي المتفاقم. كما لم تُفلِح باقي الوسائل السلمية باسترداد الحق الفلسطيني، أو جزء منه. لقد وافق الفلسطينيون ومعهم الدول العربية، على قراري مجلس الأمن المرقمين 242 لعام 1967 و338 لعام 1973، اللذين طالبا إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم الشروع بمفاوضات لإقامة دولة فلسطينية.
وبغض النظر عن الجدل العقيم الذي دار حول تفسير القرارين، وهل كان يجب استخدام (ال التعريف) أم لا، وإن كانت الكلمة تعني (الأراضي المحتلة عام 1967) أم (أراضٍ محتلة عام 1967)، فإن كلمة (محتلة) كان يجب أن تحسِم الجدل، وإلا لماذا تبقى (أرضٌ محتلة) بحوزة المحتل، بينما هي محتلة بنص القرار الأممي؟
لكن التطرف الإسرائيلي المتواصل وإنكار الحقوق، والقسوة التي تعاملت بها إسرائيل مع الفلسطينيين، حتى المدنيين منهم، في ظل الحكومات المتعاقبة، من مناحيم بيغن وأريل شارون، مرورا بأيهود باراك وشمعون بيريز، وصولا إلى بنيامين نتنياهو، وهو الزعيم الإسرائيلي الأكثر تشددا ورفضا للحق الفلسطيني، منذ تأسيس إسرائيل، قد دفع الفلسطينيين إلى اليأس من أي حل سلمي للقضية، خصوصا مع وقوف دول العالم القوية إلى جانب إسرائيل رغم اعتداءاتها المتكررة، وعدم اكتراثها للقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان.
كان قادة إسرائيل الأوائل يحلمون بدولة يهودية متواضعة، تقام على جزء من أرض فلسطين، إلى جانب دولة فلسطينية، وأتذكر ما قاله موشي دايان، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، للتلفزيون البريطاني، أواخر السبعينيات، (إننا لا نريد كل فلسطين بل جزءا منها، ولا نطالب بالقدس كلها، فالقدس الشرقية عربية)، مبينا أن اليهود الذين كانوا يعيشون في الدول العربية قد انتقلوا إلى إسرائيل، وهؤلاء، كمواطنين عرب، لهم الحق في العيش على هذه الأرض، وعلى الدول العربية أن تعتبر هذا الجزء الذي تشغله إسرائيل أرضا يقطنها مواطنو الدول العربية اليهود.
وفي المقابل، ليس صحيحا أن نبقى نلوم الآخرين دون أن نلتفت إلى أخطائنا. إن دعم الدول العربية لفصائل فلسطينية متعددة ومتناحرة، بدلا من دعم القضية الفلسطينية بقيادة ممثلي الشعب الفلسطيني الحقيقيين، كان خطأ مدمرا، قاد إلى تعدد "جبهات التحرير" المتنافسة، وإلى الاقتتال بين الفلسطينيين أنفسهم. كان على العرب أن يساعدوا الفلسطينيين على التوحد، وأن تكون هناك قيادة فلسطينية موحدة، تتمتع بتأييد معظم الفلسطينيين، مع السماح للرؤى المتباينة أن تطرح تحت سقف واحد، وكان يجب تقديم الدعم الكافي للقضية الفلسطينية، ممثلة بقيادتها الموحدة.
لكن هذا لم يحصل، بل توزعت الخلافات العربية على الفصائل الفلسطينية، وصارت الفصائل تبز بعضها بعضا في التشدد، وإنْ جنح أحدها إلى حل تفاوضي، تصدى له الآخرون وأفشلوه واتهموه بالخيانة، فضاعت الفرصة تلو الأخرى لإيجاد حل عملي للقضية، في وقت حُلَّت قضايا كثيرة في العالم، من الهند وباكستان وبنغلادش إلى أيرلندا الشمالية وتيمور الشرقية وبورما، مرورا بالبوسنة والهرسك وكوسوفو وجنوب السودان.
في الحروب والأزمات، تكون الوحدة الوطنية ضرورة قصوى. في الحرب العالمية الثانية، مثلا، تشكلت حكومة وحدة وطنية في بريطانيا بقيادة ونستون تشرشل، بمشاركة حزب العمال بزعامة كلمنت آتلي، وحزب الأحرار بزعامة جون أندرسون، بينما انتخب الأمريكيون فرانكلِن روزفلت لأربع دورات، مستمرا في الحكم لثلاثة عشر عاما، حتى موته عام 1945. وحاليا، يسعى بنيامين نتنياهو لتشكيل حكومة يشرك فيها حزب العمل المعارض، لأن هناك أزمة تهم الجميع، والحكومات الحزبية لا تمثل كل السكان.
أعمال القتل والخطف والتعذيب واللجوء إلى العنف جرائم بشعة تستحق الإدانة دون أدنى تحفظ، بغض النظر عمن يرتكبها، وكان يفترض أن يتعامل العالم بمعيار واحد مع حماس وإسرائيل، فليس صحيحا أن تدان حماس وحدها، عندما تستهدف المدنيين، بينما تُستثنى إسرائيل من الإدانة، في وقت تقصف فيه الأحياء السكنية في المدن الفلسطينية، مع ملاحظة أن إسرائيل دولة معترف بها دوليا، وتقع عليها مسؤوليات قانونية، بينما حركة حماس تنظيم سياسي، له جناح مسلح، ولا تعترف به أي دولة أو منظمة دولية، ولا تتفق مع أيديولوجيته معظم دول العالم.
وبغض النظر عن مواقف الحكومات، فإن معظم الشعوب، حتى في أمريكا وأوروبا، تتعاطف مع سكان غزة، المدنيين المسالمين، الذين لم يرتكبوا جرما كي يستحقوا القصف العشوائي الذي يطال أحياءهم، أو قطع الكهرباء والإمدادات الضرورية عنهم، بل كانوا دائما الجهة التي تتلقى الأهوال والجرائم. حماس لا تمثل غالبية سكان غزة، وكان على دول العالم أن تفرِّق بين حركة حماس، وسكان غزة، الذين يعارض معظمهم توجهها السياسي.
لا تستطيع إسرائيل أن تعيش بسلام مازال وجودها يقوم على ظلم الآخرين ومصادرة أراضيهم وحقوقهم، فالاستقرار والازدهار لا يُستمدان من القوة وحدها. لم تستطع فرنسا أن تبقى طويلا في الجزائر، رغم قوتها الضاربة وقتلها مليون جزائري. ولم تستطع روسيا، ولا أمريكا بعدها، أن تبقيا في أفغانستان، رغم تمتعهما بقوات عسكرية متطورة، بل ورغم وجود شريحة كبيرة من السكان تؤيد وجودهما. لقد قدمت أمريكا الدعم العسكري والمالي والتدريب لحلفائها الأفغان لعشرين عاما، لكنها لم تستطِع إضعاف القوى الرافضة لها، ما دفعها للمغادرة.
ولم تستطع البقاء في الصومال أو لبنان، وحتى العراق، تركته على عجل، فما الذي يدفعها إلى مساندة إسرائيل، حتى عندما تنتهك القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان؟ وكيف تتوقع إسرائيل أن تقيم علاقات طبيعية مع الدول العربية والإسلامية وهي تنكر على الفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم، وتواصل إقامة المستوطنات على أراضيهم؟
وفي بريطانيا يتعاطف كثيرون مع الشعب الفلسطيني، لكن حكومة المحافظين المفلسة، التي لا يُتوقع لها البقاء بعد الانتخابات المقبلة، تقف مع إسرائيل، الدولة القوية ذات الجيش الضارب، ولا تطلق كلمة تعاطف واحدة مع ضحاياها من النساء والأطفال والمدنيين الفلسطينيين.
رئيس الوزراء، ريشي سوناك، قال أثناء زيارته لمعبد يهودي، إن "حماس منظمة إرهابية، وعلى الناس ألا يدعموها، ومن يفعل ذلك سوف يُحاسَب"! لكن الأغرب، أن وزيرة الداخلية، سويلا برفرمان، أصدرت توجيهات لقادة الشرطة باعتبار "رفع العلم الفلسطيني أو ترديد هتافات تطالب بالحرية للعرب"، جريمة تستحق العقوبة، حسب تقرير جريدة الغارديان، في 10 أكتوبر الجاري.
الشعب الفلسطيني اختار الحل السلمي، ووقع ممثلوه الشرعيون على اتفاقية أوسلو عام 1993، التي نصت على حل الدولتين، لكن إسرائيل لم تلتزم باتفاقيات أوسلو، وقد قتل المتطرفون عرّاب الاتفاقية، رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، ليبدأ بعده مسلسل إفراغ الاتفاقية من مضامينها، عبر الاستيلاء على الأرض الفلسطينية لإقامة مستوطنات غير قانونية، وشن الحروب المتكررة على غزة، وفرض الحصار الخانق عليها، وها هي إسرائيل الآن تعترض حتى على تقديم الإغاثة للسكان المدنيين المحاصرين في غزة.
حركة حماس تؤمن بالكفاح المسلح، وهي في هذا الموقف تخالف غالبية الفلسطينيين والعرب، لكن ما تفعله إسرائيل يدفع مزيدا من الفلسطينيين، والعرب والمسلمين، إلى الاتفاق مع حماس، بأن الحلول السلمية غير ممكنة، بوجود حكومات إسرائيلية متشددة، كحكومة نتنياهو، عازمة على سلب المزيد من الأرض والحقوق. إن ما يشجع التشدد الإسرائيلي هو الدعم السياسي والعسكري غير المحدود، الذي تتلقاه إسرائيل من دول العالم الغنية والقوية في أمريكا وأوروبا، وهذا الدعم هو أحد أسباب تأجيج التطرف الديني والسياسي في العالمين العربي والإسلامي. ويمكن القول إنه كلما ازداد الدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل، ازداد التطرف والإرهاب في العالم، وتقلصت فرص الأمن والسلام.
إن كان المجتمع الدولي جادا في محاربة الإرهاب والتطرف، ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيجب عليه إيجاد حل عاجل للقضية الفلسطينية، ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني المتواصلة منذ 75 عاما. وفي خلاف ذلك، سيستمر العنف والإرهاب والتطرف. وإن تناقصت فرص الحياة الحرة الكريمة أمام الفلسطينيين، فلن يبقى أمامهم سوى اللجوء إلى العنف الذي يولد الموت والدمار.