لم يضف الحجر الأسود أية قدسية على هجر عندما سرقه القرامطة من جانب الكعبة وحملوه إلى ديارهم، بل كان وبالاً ولعنة عليهم.
وفي تل أبيب كما في غزة حجرين قرمطيين فاقدين للقداسة: الأول هو تمسك نتنياهو بإرث الرئيس دون القائد التاريخي، فليته ضحى بالرئاسة مقابل تسطير التاريخ لمواثيق السلام الإبراهيمية باسمه، ولم يتحالف مع المتطرفين من قومه ظنا منه بأن بوابة السلام مفتوحة دون شروط لصالح الفلسطينيين، لكن فاته ذلك وتمادى حتى في مسألة التشريعات مع مواطنيه، والتي أضاعت جهودا أمنية نرى اليوم تبعات إهمالها مع هجوم حركة حماس.
لكن الحجر الأخطر سرقته حماس من الأمن القومي لإسرائيل وفخرها بتحصيناته، وحرص حلفائها الدوليين الكبار عليه. المشهد الإقليمي حرج في سياقه الدولي، حيث تود المعسكرات العودة إلى جبهاتها الرئيسية في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي، وإعادة بناء ترساناتها استعدادا للأسوأ الذي نرجو ألا يأتي. لذا، ما حدث أفقد أوروبا التعاطف الأمني مع غزة، وفي مرحلة الإعداد لسنة الانتخابات 2024، سيقوم بايدن بكل ما في وسعه لضمان فوزه بالأصوات الأميركية المحبة لإسرائيل، وإذا أضيف إلى هذا الطموح الرغبة في التفوق على ترامب بتسجيل معاهدة تقارب تجمع السعودية مع إسرائيل، فسيكون الدعم العسكري والتغاضي عن أثمان الخسائر الإنسانية مهولا وصادما.
حتى لو جزمنا بأن أطرافا إقليمية أو دولية دعمت عملية (طوفان القدس) لتشتيت جبهات أو إحراج سياسات عديدة، إلا أن تبعات الأمر تضفي مشروعية جذرية لدى الغرب، مدفوعا ببقاء إسرائيل وازدهارها، لتحييد كل الحركات المسلحة الفلسطينية - وإن دعت الظروف أيضا - إلى كسر الهلال الخصيب بصيغته الممانعة، بحرق الأرض حيثما وجد دعم ميداني للمسلحين الفلسطينيين في الجوار الإسرائيلي وربما أبعد.
التحول الذي فات نتنياهو هو أن السلام مع أكثر من بلد عربي يجب أن يتضمن مصلحة جوهرية إضافية تمنح للفلسطينيين مع كل توقيع، بمعنى أنه كان يجب عليه وعلى أعضاء حكومته العمل لملاقاة شركائهم الرسميين الجدد في السلام في منتصف الطريق ليزداد الموقعون على المواثيق، وأيضا لتصوير إسرائيل كدولة يمكنها تقديم حسن النوايا بخدمة الفلسطينيين مقابل مسالمة جوارها والتعاون معه تنمويا.
لو فعلت حكومة نتنياهو أو حكومة لابيد بعده ذلك، بدل تجاذبات الأحزاب واعتبارات جزئية تصغر أمام المشهد الكبير، لأمكن استنهاض صورة الضحية في وجدان كثير من العرب والمسلمين في محيط إسرائيل إذا تحرك المسلحون من الطرف الفلسطيني ضدها، ولأمكن تخوينهم واتهامهم بالعمالة لإيران أو تبني مبدأ (علي وعلى أعدائي) العدمي في التخريب على بقية الفلسطينيين والجوار الإقليمي المسالم. أما وقد اختارت حماس الاندفاع الانتحاري، فلا تبدو في المشهد غير نهاية القرامطة والحشاشين. هذا توقع وليس أمنية.