يتساءل كثيرون عن الأسباب التي قادت إلى الانتشار المفاجئ للسياسات الحمائية في العديد من البلدان الصناعية والنامية، بعد أن كان المبدأ السائد والمحبذ هو الانفتاح الاقتصادي وتشجيع التجارة الحرة بين البلدان المختلفة.
ويمكن القول إن انتخاب مارغريت ثاتشر في بريطانيا عام 1979، ورونالد ريغان في أميركا عام 1980، قد شكَّل الانطلاقة الحقيقية لتطبيق مبادئ التجارة الحرة واقتصاد السوق، لكن تلك الانطلاقة لم تمضِ دون عوائق، خصوصا في بريطانيا، حيث كانت مبادئ دولة الرفاهية وتأميم وسائل الإنتاج وتدخُّل الدولة في الاقتصاد لمساعدة الشرائح الفقيرة، هي السائدة منذ عام 1945، في ظل حكومة حزب العمال، برئاسة كلمَنت آتلي.
وفي تلك الفترة نفسها، انفتحت الصين على العالم وبدأت تطبق مبادئ الاقتصاد الحر تدريجيا، وتمكنت من تحقيق نهضة اقتصادية نوعية، كنتيجة مباشرة لسياسة الانفتاح. وبعد عقد من الزمن، انهارت الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وتبعها تفكك الاتحاد السوفيتي إلى مكوناته الأصلية، فحلت الأحزاب الشيوعية نفسها، واستُبدِلت بأحزاب تحمل صفة الديمقراطية، وتحولت إلى النظام الرأسمالي، متبنِّيةً اقتصاد السوق ومنفتحةً على العالم، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بما في ذلك المكون الأكبر للاتحاد السوفيتي، وهو روسيا.
وقد أحدث هذا التحول البنيوي في الاقتصاد العالمي نقلةً نوعيةً في الاقتصادات الوطنية، وتفاعلاً تكاملياً بين دول العالم المختلفة، وقاد إلى تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995، لتحل محل "الاتفاقية العامة حول التعرفات والتجارة"، (GATT)، التي تأسست عام 1948، الأمر الذي دفع العديد من الدول المتجاورة في مناطق مختلفة من العالم، إلى تشكيل تكتلات لتعزيز التعاون الاقتصادي وتسهيل التبادل التجاري بينها، مثل "اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا"، (NAFTA)، بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، و"السوق الجنوبية المشتركة"، (MERCOSUR)، بين عدد من دول أميركا اللاتينية، و"تجمع دول جنوب شرق آسيا" (ASEAN)، إضافة إلى توسيع الاتحاد الأوروبي ليضم دول أوربا الشرقية، وتعزيز تماسكه بمزيد من القوانين واللوائح والاتفاقيات.
ولكن الذي حصل منذ بضع سنوات أن هذا التوجه العالمي نحو التعاون والتكامل قد تغير إلى النقيض، فصارت الدول تركز على تنمية الاقتصاد الوطني بمعزل عن العالم. على سبيل المثال، بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبي إثر استفتاء عام 2016، وأميركا، التي كانت تسعى لتوسيع التبادل التجاري العالمي في عهد الرئيس الديمقراطي، باراك أوباما، انكفأت على نفسها في عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، وأخذت تبتعد حتى عن حلفائها الأوروبيين والآسيويين، وأخذت تفرض قيودا على التجارة مع الصين، التي كانت مهمة لكلا البلدين على مدى عقدين من الزمن.
ورغم أن الوضع قد تغير سياسيا في عهد الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، لكنه هو الآخر ركز على الداخل الأميركي، وبدأ يفرض تعرفاتٍ جمركيةَ ويضع عوائقَ جديدةً في طريق التجارة الحرة، واتخذ إجراءاتٍ عديدةً تهدف إلى إضعاف الصين، بما في ذلك تقديم حوافز مالية للشركات الأميركية والغربية، التي تصنِّع أشباه الموصلات، أو تنتج المعادن النادرة، الضرورية للصناعات الحديثة، بهدف الاستغناء عن إنتاج الصين.
مع ذلك، يُسجَّل لإدارة بايدن أنها تمكنت من تعزيز التحالف الغربي سياسيا وعسكريا، وعقدت اتفاقياتٍ ثنائيةً أو ثلاثية، مع الدول الغربية في آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية وأستراليا، لكن الهدف الأساس من هذه الاتفاقيات كان إعاقة التوسع الصيني، إذ أطلق قولته الشهيرة، بعد 3 أسابيع فقط على توليه الرئاسة "إن الصين سوف تأكل غداءنا، إن لم تطور أميركا بُناها الأساسية".
الصين هي الأخرى أخذت تفرض عقوباتٍ على التعامل مع الدول الغربية، وحاولت إنشاء تكتلات اقتصادية جديدة، مناهضة للتحالفات الغربية، وربط الدول النامية بها عبر مبادرة (الحزام والطريق)، ثم إنشاء وتوسيع تكتل بريكس، لكن وقوفها مع روسيا في غزوها أوكرانيا، كان بمثابة جرسِ إنذار مدوٍ للغربيين، للحذر منها وإيقافِ تقدمها.
أما روسيا، التي سارت بخطوات حثيثة نحو الانفتاح والديمقراطية في فترة التسعينيات، في ظل قيادة الرئيس بوريس يلتسن، اتجهت اتجاهاً معاكسا عند تولي الرئيس فلاديمير بوتين زعامتها كليا عام 2000. وما ساعدها على ذلك هو اعتماد الاقتصادات الأوروبية الرئيسية على صادراتها من الغاز، إذ وفَّر لها ذلك أموالا طائلة استخدمتها في التوسع الجغرافي وتعزيز هيمنتها على الدول المجاورة وأوروبا الشرقية.
وكان غزو أوكرانيا آخر تلك المحاولات التي أيقظت الغربيين جميعا، شرقا وغربا، إلى خطرها الداهم، وأحدث استقطابا عالميا جديدا، بدأ بفرض أميركا وحلفائها عقوباتٍ شديدةً على روسيا، ومقاطعة التجارة معها، بل وفرض سقف على سعر نفطها، ما دفعها لاتخاذ خطوات عقابية مقابلة، وصلت إلى حد إيقاف تصدير القمح الأوكراني، حتى وإن تسبب في رفع أسعار المواد الغذائية عالميا.
الشعوب الأوروبية أخذت تتجه نحو اليمين، وتنتخب أحزابا يمينية تدعو إلى الانكفاء على الداخل، أو أنها، في حدودها الدنيا، صارت غير منسجمة مع التوجه العالمي نحو الانفتاح. إيطاليا، مثلا، أوصلت السياسية اليمينية، جورجيا مِلوني، رئيسة حزب "أخوة إيطاليا"، إلى رئاسة الوزراء. ومِلوني محافظة متشددة، وكانت قد بدأت حياتها السياسية بخطاب حاد عام 2018، شنت فيه هجوما لاذعا على فرنسا ورئيسها، إيمانويل ماكرون، علما أنه من أهم قادة الاتحاد الأوروبي، الذي تنتمي إليه إيطاليا، وتتكئ عليه اقتصاديا.
رفضت مِلوني الموافقة على معاهدة "آلية الاستقرار الأوروبية"، (ESM)، وهو صندوق أنشئ عام 2012، إثر أزمة الديون السيادية، لتوفير الحماية للدول الأعضاء في الاتحاد التي تعاني من أزمات مالية، وكانت إيطاليا موقعة عليها. وحسب وكالة رويترز، فإن وزارة الخزانة الإيطالية ترى أن إيطاليا ستستفيد من الصندوق، لكن التعصب القومي يمنع مِلوني من الموافقة عليها، كي لا تضطر إيطاليا للمساهمة في إنقاذ دول أوربية من أزماتها الاقتصادية.
ويحكم هنغاريا منذ سنوات، اليميني المتشدد، فيكتور أوربان، الذي يشذ في توجهاته عن باقي السياسيين الأوروبيين وأعضاء حلف الناتو، وطالما عرقلت مواقفه المتشددة المفاوضات الأوروبية. كما انتخب السلوفاك مؤخرا، الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SMER)، بقيادة اليميني المتشدد، روبرت فيكو، الذي يؤيد روسيا، مخالفا بذلك موقف دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، المؤيد والداعم لأوكرانيا.
واعتبرت قناة (CNN) فوز فيكو تحديا للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وكان فيكو قد تولى رئاسة الوزراء مرتين، ومن المحتمل أن يشكل الحكومة المقبلة، إن حظي بتأييد كافٍ من الأحزاب الأخرى. وفي ألمانيا، فاز الحزب الديمقراطي المسيحي (اليميني) في ولايتين في الانتخابات الأخيرة، التي أجريت في 8 أكتوبر الجاري، متفوقا على الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم، بزعامة أولاف شولتز. وفي فرنسا يتقدم حزب التيار الوطني (اليميني المتشدد)، بزعامة مارين لَبَن، في استطلاعات الرأي، ومن المتوقع أن يعزز وجوده في البرلمان، الذي يشغل فيه حاليا 89 مقعدا، من مجموع المقاعد البالغ 577.
لكن المشكلة الأكبر ستحصل إذا ما انتخب الأميركيون رئيسا يمينيا في العام المقبل. فالولايات المتحدة، وهي أكبر اقتصاد وأعظم قوة في العالم، إذا ما عادت القهقرى، وانكفأت على نفسها، فإن هذا يربك حسابات دول العالم أجمع، اقتصاديا وسياسيا. ليس متوقعا أن يفوز المحافظون في بريطانيا، فشعبيتهم في أدنى مستوى لها منذ عقود، وأن حزب العمال، بزعامة كيير ستارمر، سوف يشكل، على الأرجح، الحكومة المقبلة.
وترى مجلة الإيكونوميست أن النموذج الاقتصادي الصيني، الذي يعتمد على رأسمالية الدولة، وليس رأسمالية القطاع الخاص، والذي قاد إلى نهضة اقتصادية مثيرة للإعجاب خلال أربعة عقود، جعل كثيرين في الغرب، خصوصا من الطبقات الفقيرة، يفكرون بأن تدخل الدولة في الاقتصاد يقود إلى ازدهار اقتصادي.
غير أن هناك حدودا لمثل هذا النجاح، والصعوبات الاقتصادية الحالية في الصين، خير دليل على العيوب المتأصلة في هذا النموذج، إضافة إلى أنه غير محبذ في البلدان الغربية، التي اعتادت على نمط حياة معين، لم يعتَده الشعب الصيني، الذي مازال يفتقر إلى الحقوق والحريات التي يتمتع بها الإنسان الغربي.
لا شك أن دور الدولة الوطنية مازال مطلوبا، وأن اقتصاد السوق، رغم كفاءته وضرورته في العالم المعاصر، فإنه يترك فجوات تقع ضحيتها الشرائح الضعيفة في المجتمع، من الفقراء والمرضى والمسنين، الذين تتزايد أعدادهم في الدول الصناعية، بسبب تطور الطب الحديث، ومثل هذه الفجوات تتسع وتتفاقم، إن لم تشغلْها الدولة.
الإعانات الحكومية التي سادت في العديد من الدول الصناعية خلال جائحة كورونا، كانت ضرورية لطمأنة القطاعات المختلفة، ولكن استمرارها، أو اللجوء إليها دائما، يحدِث تشوهاتٍ اقتصاديةً غيرَ محبذة، تؤدي إلى تكبيل الدولة بالديون وتدني جودة الإنتاج، الأمر الذي يعقِّد علاقاتِها مع الدول الأخرى، ويؤدي على الأرجح إلى انكفائها.
لقد مكَّنَت العولمة العديد من الشركات العملاقة أن تؤسس مصانع وفروعا لها في البلدان النامية، وبذلك وفَّرت وظائف كثيرة في تلك البلدان، وطوَّرت البُنى الأساسية والخبرات العلمية والتقنية فيها، كما أن اختيار البلدان المنخفضة الكلفة موقعا للإنتاج، إن حصل ضمن شروط تحفظ حقوق العمال، سوف يساهم في خفض كلفة المنتجات، ما يجعلها في متناول الجميع، خصوصا في البلدان الفقيرة، وهذا يساهم في خفض معدل التضخم العالمي.
التعاون الدولي في مجال محاربة الإرهاب ومكافحة الأوبئة والمخدرات والجريمة المنظمة مطلوب بإلحاح، خصوصا في هذا العصر، ولا يمكن السيطرة على مثل هذه الكوارث إلا بتعاونٍ دوليٍ وثيق. لكن التوجه اليميني الحالي يحبط هذه المساعي أو يؤخر نجاحها.
إن التجارة العالمية، التي انتعشت بالتقارب والتعاون بين الدول، وعقد اتفاقيات تجارية مشتركة، وتقليص التعرفات الجمركية، وتأسيس تكتلات إقليمية للتعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، سوف تتضرر، ما يدفع معظم الدول إلى عقد اتفاقيات ثنائية، بدلا من الاحتكام إلى منظِّم عالمي موحَّد، كمنظمة التجارة العالمية، التي تنظم التجارة وتقرر حجم التعرفات الجمركية وتبُت في النزاعات التجارية.
التوجه اليميني الانكفائي الذي نراه حاليا، لا يهدد الاقتصاد العالمي فحسب، بل يهدد بتفاقم التلوث البيئي، وينذر بنشوب حروب، باردة أو ساخنة. الاقتصاد العالمي بحاجة ماسة إلى معالجات جماعية وجهود منسقة، كما أن من غير الممكن معالجة التلوث البيئي والتغير المناخي وطنيا، لأنه يحتاج إلى تعاون دول العالم أجمع. مكافحة الأوبئة والإرهاب والتطرف تحتاج أيضا إلى جهود عالمية جادة ومنسقة. أما التطرف القومي، فيحقق طموحات أفراد وجماعات محددة في الوصول إلى السلطة، لكن عواقبه على العالم وخيمة.