منذ نهاية الحرب الباردة، تصاعد الجدل والنقاش حول مستقبل النظام العالمي، وطبيعة الصراع الجديد بين القوى العظمى. حتى جاءت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والمخاوف من حرب مماثلة صينية لضم تايوان بالقوة، لتطرح سؤال: ما هو المحرك الأساسي لصراعات القوى الكبرى؟

رحلة البحث عن نظرية

تميز العقد الأخير من القرن العشرين (1991-2001) بالعديد من النظريات المتضاربة، في محاولتها استشراف و/أو رسم صورة لمستقبل النظام العالمي الجديد. اتسمت مرحلة الحرب الباردة (1947-1991) بالوضوح في كل شيء تقريبًا. معسكر أيديولوجي شرقي اشتراكي بقيادة موسكو مقابل معسكر غربي رأسمالي بقيادة واشنطن، وكلا المعسكرين لديهم حلف عسكري (وارسو مقابل الناتو)، وحتى الدول التي حاولت أن تدعي "عدم الانحياز" كانت في الواقع حليفة لأحد المعسكرين. رغم المنافسة الشرسة على كافة الأصعدة إلا أن هذا النظام خلق استقرارًا نسبيًا، وكان العالم قابلاً للتوقع (إلى حد كبير) في ظل قواعد اشتباك "عرفية" متفق عليها تم إقرارها بشكل رسمي في "اتفاقية هلسنكي" عام (1975).

أدى تفكك المعسكر الشرقي، لحالة من (الفراغ)، والحاجة لوجود "نظرية" جديدة لشكل النظام الجديد الذي سيحل محل ما أصبح ينتمي للماضي. تمخض عن حالة السيولة الفكرية هذه، ثلاث معسكرات رئيسية:

  • الأول، أفرط في "التفاؤل" ومثلهم، فرانسيس فوكوياما، مدعيًا أن الليبرالية الديمقراطية والاقتصادية قد انتصرت، وقد كتب التاريخ بهذا النصر المُؤَزَّر "آخر" فصوله، وهو ما عبر عنه في كتابه "نهاية التاريخ" عام (1993).
  • الثاني، "المتشائمون"، ومثلهم صامويل هنتنغتون في كتابه الشهير "صدام الحضارات" عام (1996).
  • الثالث، وهم "الواقعيون" الذين تميزوا برؤية أكثر عملية، أبرزها ما كتبه زبغنيو بريجينسكي عام (1997) في كتاب "رقعة الشطرنج الكبرى"، وهنري كيسنجر في كتابه "الدبلوماسية" عام (1994).
    رغم تعدد تلك النظريات، لم تستقر السياسة الأميركية على تصور محدد، وسعت لتطبيق أجندتها لدعم السوق الحر، والديمقراطية التمثيلية، وتفكيك ما تبقى من إرث المعسكر الاشتراكي، ودمج العديد من دوله المؤثرة في المنظومة الغربية بقيادتها، وتبني "العولمة" على أساس «"الأممية الليبرالية".

باكس أميركانا

رغم أن الولايات المتحدة، لم تتبنى نظرية واضحة من ضمن النظريات المقترحة من قبل مجتمع الخبراء، إلا أنها بدت أقرب لنظرية "نهاية التاريخ"، وسط حالة من النشوة بعد النصر في الحرب الباردة، وسيادة الخطاب "التبشيري" حول عصر السلام الأميركي Pax Americana، عصر الأسواق المفتوحة، والتعاون بين الشعوب، والديمقراطية والحريات العامة والخاصة. انطلقت هذه النظرية من أن الصراع سيكون بين الديمقراطية مقابل الاستبداد؛ الأسواق الحرة مقابل الحمائية والانغلاق، مدعية أن الاقتصاد المحرك الرئيسي لأي صراع قادم، وهو ما أكدت عليه حملة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، عندما رفع شعار It's the economy, stupid "إنه الاقتصاد يا غبي" التي صاغها عام (1992) جيمس كارفيل James Carville. بينما جادل المتشائمون أن الصراع "حتمي" على أساس الاختلافات "الثقافية"، وصدام بين الحضارات. بينما اعتمدت رؤية "الواقعيون" على أن الصراع القادم لن يكون أيديولوجي أو اقتصادي أو ثقافي-حضاري بل (جيوبولوتيكي).

استراتيجية الفوضى الخلاقة

جاءت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وكأنها الحل الذي أرسله "القدر" لإنهاء هذا النزاع والجدل، وبدا أن نظرية "صدام الحضارات" هي الغالبة، وتنحت نظرية "نهاية التاريخ" جانبًا. في هذه المرحلة، تم رفع شعار الحرب العالمية على الإرهاب GWOT، وما رافقها من تصريحات غير مسؤولة للرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، حول "الحرب الصليبية"، والتي تم إساءة تفسيرها عربيًا.

أدت هذه الحرب بحسب المسؤول عن قسم الوقاية من الإرهاب في مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة في فيينا، أليكس بي شميد Alex P. Schmid، إلى النتائج التالية:

  • تسببت الكثير من عمليات مكافحة الإرهاب الأميركية لنتائج عكسية. بلغ تعداد القاعدة نحو (400) مقاتل فقط في أفغانستان عندما قتل (19) منهم ما يقرب من (3000) مدني من أكثر من ستين دولة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، بالولايات المتحدة. يوجد اليوم بجانب القاعدة، حوالي (100) جماعة إسلامية متطرفة أخرى ناشطة في ما يقرب من (70) دولة حول العالم مما أسفر عن مقتل أكثر من (120) ألف شخص في السنوات القليلة الماضية وحدها. ويقدر عدد مقاتلي القاعدة والجماعات التابعة لها الآن بنحو (40) ألف مقاتل. إجمالاً، هناك حوالي (230.000) جهادي نشط حول العالم.
  • نفذت الولايات المتحدة وحدها مهمات عسكرية لمكافحة الإرهاب في (80) دولة بتكلفة تقدر بنحو (2) تريليون دولار أميركي.
  • الثمن الذي دفعه المدنيون في "الحرب العالمية على الإرهاب": قتل ما يقدر بحوالي (43.074) مدنيًا في أفغانستان، وحوالي (23.924) في باكستان، وما بين (184.382) إلى (207.156) في العراق، وفي سوريا (49.591)، وفي اليمن (12.000)، إجمالاً ما بين: (312.971-335.745) مدنيًا، أي مائة ضعف عدد المدنيين الذين لقوا حتفهم في هجمات 11 سبتمبر (أيلول).
  • عدد أفراد القوات العسكرية وقوات الشرطة الوطنية في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا واليمن، الذين فقدوا حياتهم في "الحرب العالمية ضد الإرهاب" ما بين (173.073-335.745) رجلاً وامرأة في جميع أنحاء العالم.
  • مات ما بين (770.000-801.000) من البشر في حروب ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) يشمل هذا التقدير الإجمالي عدد القتلى المدنيين: حوالي (312.000) أو أكثر - بالإضافة إلى قتلى الإرهابيين (أكثر من 250.000).
  • نزح ما يقدر بنحو (37) مليون شخص داخليًا أو خارجيًا نتيجة الحروب التي خاضها الجيش الأميركي بعد 11 سبتمبر (أيلول).

تبددت الآمال فيما يسمى "عصر السلام الأميركي"، وصولاً لتحسر البعض على زمن الحرب الباردة، بعدما سادت الفوضى العالم، ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. كما حدث خلل في موازين القوى الإقليمية بعد إسقاط نظامي طالبان وصدام حسين بالقوة، وهو ما أدى لهيمنة إيرانية، وصعود تركي، وتعثر عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية.

زاد من حالة الفوضى هذه، اعلان الرئيس الأسبق بوش، أمام صندوق الوقف القومي للديمقراطية في الولايات المتحدة، عن مبادرة لتطوير وإصلاح الشرق الأوسط، حملت اسم "مبادرة الشرق الأوسط الكبير" عام (2004)، والتي كان قد سبقها بخطاب مماثل في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2003، من ضمن ما جاء فيه: "ستون عامًا من تجاهل الدول الغربية لانعدام الحرية في الشرق الأوسط لم تفعل شيئًا لتجعلنا آمنين، لأنه على المدى الطويل، لا يمكن شراء الاستقرار على حساب الحرية. وطالما ظل الشرق الأوسط مكانًا لا تزدهر فيه الحرية، فسيظل مكانًا للركود والاستياء والعنف جاهزًا للتصدير".

كان من أحد نتائج هذه السياسة، حرب لبنان (2006)، التي وصفت أميركيًا بأنها: "مخاض لولادة شرق أوسط جديد" وازدياد مشاعر الاستياء الشعبي داخل العالمين العربي والإسلامي، وشعور بالفزع من تحول "الحلم" الأميركي إلى "كابوس". الإمبراطورية التي بشرت بالأمل أصبحت لا تعرف سوى استخدام القوة العسكرية والغزو والعقوبات، وتهديد الحلفاء قبل الأصدقاء. وبدلاً من الاستقرار والرخاء رفعت شعار "الفوضى الخلاقة"، ثم جاء لقاء وزيرة الخارجية كونداليزا رايس، في الجامعة الأميركية بالقاهرة، يوم 20 يونيو (حزيران) 2005، ليقدم حافز إضافي لحالة الفوضى، عندما صرحت إن: "الولايات المتحدة، لن تعترض حال أدت العملية الديمقراطية في المنطقة لوصول تيار إسلامي معتدل ملتزم بالديمقراطية مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا".

أرتكب الجمهوريين آنذاك أخطاء كبرى في سياساتهم تجاه المنطقة، وعندما أدركوا ذلك، حاولوا علاجها عبر سياسات جديدة يمكن أن توصف بـ "الخطايا"، عبر الخروج بنظرية جديدة، مفادها أن تنامي الإرهاب الإسلاموي حول العالم، يعود لعدم تمثيل هذه التيارات، وضرورة دمجها في العملية السياسية. أبرز من دافعوا عن هذه الأطروحة بل وروج لها نوح فيلدمان Noah Feldman، أستاذ القانون في كلية هارفارد للحقوق، وأحد المشاركين في صياغة الدستور العراقي ما بعد الغزو الأميركي. رأى فيلدمان، أن "تبني نموذج إسلامي يزاوج ما بين الشريعة والنظم الحديثة، ويستوعب تيارات الإسلام السياسي، يمكن أن يوفر العدالة السياسية والقانونية لمسلمي اليوم، ويقضي على الإرهاب".

ارتبط صعود التيارات الإسلاموية، وشيوع الفوضى بالمنطقة في الذهنية العربية، بالإدارة الديمقراطية بقيادة أوباما، لكن عند النظر لتسلسل الأحداث، يبدو أن هذا المسار قد بدأ من قبل الجمهوريين، وتم زرع هذه الأفكار مسبقًا داخل المؤسسات الأميركية، وكل ما حدث أن الديمقراطيين أكملوا هذا المسار. أما فيما يخص معارضة الجمهوريين فيما بعد لسياسات أوباما، وما بدا دعمًا منها للتيارات الإسلاموية، فلا يعدو كونه "مناكفة" سياسية معتادة بين الطرفين، حيث كان الجمهوريين في ذلك الوقت هم المعارضة، وخارج البيت الأبيض.

هل أنتهى زمن الاستراتيجيات الكبرى

تحت عنوان "نهاية الاستراتيجية الكبرى"، جادل عدد من المفكرين والسياسيين الأميركيين، لعل أبرزهم ما كتبه دانيال دبليو دريزنر Daniel W. Drezner، ورونالد آر. كريبس Ronald R. Krebs وراندال شويلر Randall Schweller. مدعين أن عصر الاستراتيجيات "الكبرى" قد ولى زمانه، وعلى الولايات المتحدة التزام استراتيجيات "صغيرة" ومحددة في ظل عالم سريع التغير. بينما عارض الكثيرون هذا الرأي، ومنهم روبرت ويلكي Robert Wilkie بأنه على العكس من ذلك، الولايات المتحدة الآن بحاجة إلى "استراتيجية كبرى" أكثر من أي وقتٍ مضى. أما "الواقعيون" من أمثال ألاسدير روبرتس Alasdair Roberts، دافعوا عن استراتيجية "براغماتية" منتقدين ما بدا نهجًا أيديولوجيًا للحزبين الديمقراطي والجمهوري في التعاطي مع السياسات الخارجية.

بعيدًا عن هذا الجدل الذي يطول شرحه، ومازال قائمًا حتى اللحظة. ما يمكن قوله، أن ما بدت "أحلامًا" أميركية حول شكل العالم الجديدة بالفترة من (1991-2001)، تبين فيما بعد أنها "أوهام" أدت لحالة من "التخبط" منذ إدارة جورج دبليو بوش، وصولاً لذروتها في إدارتي أوباما وترمب، تُعد (أمرًا طبيعيًا) في ظل عملية التغيير المستمر التي شهدها العالم، وتحمل الولايات المتحدة للقيادة المنفردة بعد السقوط السريع للاتحاد السوفيتي ومعسكره الشرقي، والصعود الأسرع لاقتصادات خارج المنظومة الغربية في آسيا والشرق الأوسط، وما رافق هذه العملية من تعدد الرؤى والنظريات والتجارب. الأهم من ذلك، عدم وجود خصم واضح محدد الملامح في تلك الفترة التي أصبحت فيها الأغلبية العالمية (ظاهريًا على الأقل) تتبنى الديمقراطية التمثيلية والسوق الحر، ولم يدعي أي طرف أن لديه أيديولوجية خاصة لشكل العالم. كما فاقم من أزمة غياب "الخصم" و/أو "العدو" تفكك في المشهد السياسي الداخلي، وغياب الوحدة المعهودة ولو بحدها الأدنى فيما يخص ملف السياسة الخارجية، وتحول القضايا الاستراتيجية الكبرى لأحد أدوات التنافس الحزبي دون مراعاة للمصالح الخارجية نتيجة حالة "الاسترخاء" المبنية على الاطمئنان بأن الولايات المتحدة هي "القطب" الأوحد في العالم، ولا خشية عليها من أي منافسة.

الآن، تشهد الولايات المتحدة على وقع الصعود القوي للصين، ومشروعها الطموح "الحزام والطريق"، والغزو الروسي لأوكرانيا، عملية بناء تصور أكثر وضوحًا حول "الاستراتيجية" يتوقع أن ينضج مع الوقت، ويؤدي لخلق حالة من التوافق الداخلي حولها، وهذا أهم ما يميز الولايات المتحدة، قدرتها على إدارة الصراعات والتناقضات الداخلية.

الجيوبوليتيك سيد الموقف

ما يبدو أنه قد صمد، وأكد عبر الوقائع المتتالية أنه المحرك الرئيس للصراعات عندما تحتدم (الجيوبوليتيك) أي "تأثير الجغرافيا على السياسة". على سبيل المثال، ضحت أوروبا، بواردات الغاز والنفط والخامات الرخيصة من روسيا، وسوق استهلاكي ضخم لصادرتها التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. في المقابل، خسرت روسيا ما يقارب من نصف صادرتها، والاستثمارات الخارجية. في الواقع، تضاءلت قيمة العلاقات الاقتصادية رغم قوتها وأهميتها مقابل الجيوبوليتيك.

تعتقد موسكو أن أي مكاسب اقتصادية من جراء علاقتها مع الغرب في ظل ضعفها الجيوسياسي، وانكشافها في مجالها ما بعد السوفيتي، سيضع أي نهضة اقتصادية تحت التأثير (الجيو-اقتصادي) للغرب، أي: "استخدام السلاح الاقتصادي من خلال الدول الغربية والشركات المتنفذة عوض الصراع العسكري لفرض سياسات معينة على روسيا قد تكون في غير صالحها".

الصين، أدركت أن نهضتها الاقتصادية مرهونة بالتأثيرات (الجيو-اقتصادية) الغربية، وإمكانية حصارها في أي لحظة، لذا سعت للتوسع في بحر الصين الجنوبي، وتأمين محيطها الحيوي، والتأكيد على ضرورة وحدة تايوان في إطار سياسة "الصين الواحدة"، ولو عبر القوة العسكرية. كما انشأت أول قاعدة عسكرية لها في الخارج، وتعمل على توسيع نطاق مشروعها الخاص "الحزام والطريق"، لتمتلك القوة الجيوسياسية وتتحول لقوة مؤثرة (جيو-اقتصادية)، وهو ما يضمن لها الحفاظ على قوتها الاقتصادية بل وتنميتها.

الاستنتاجات

مرحلة البحث والتخبط الأميركي عن نظرية جديدة صالحة لقيادتها للعالم، أمر يبدو منطقي بالنظر للمتغيرات التي نشأت في عالم ما بعد الحرب الباردة وتعقيداته.

استراتيجية "الفوضى الخلاقة" الأميركية، رغم كل ما خلقته من مشكلات، وفقدان واشنطن السيطرة عليها أو حتى إداراتها، إلا أنها ساهمت إلى حد كبير في إبراز موازين القوى بالمنطقة، وكشفت المشكلات والتحديات الحقيقية للنظر في كيفية التعامل معها، ورغم ما سبقها من "استقرار" إلا أن هذا "الاستقرار" كان مبنيًا على أسس هشة، وكان مصيره الزوال.

النظرة الأميركية الحالمة "باكس أميركانا" ومحاولة جعل العالم بأكمله صورة من أميركا، مرحلة تجاوزها الزمن بعدما أدرك الأميركيين عبر التجربة وجود خصائص وتحديات للمجتمعات البشرية المختلفة. وعلى الرغم من وجود معاندة من البعض في الإقرار بهذا الواقع لكن مع الوقت وتعاظم التحديات، يعتقد أن يعود هذا الفريق لممارسة السياسة الواقعية نظرًا لأن مواقفه مبنية على أسس نظرية.

لا يوجد في عالم اليوم أسس لصراع حضارات. نعم هناك حضارات عالمية قديمة ومتنوعة، لكنها ميتة لا وجود لها سوى في إطار تأثيراتها الثقافية التي تتضاءل أمام التطور التكنولوجي، أما الحضارة الحية التي تتعاطى معها البشرية فهي الحضارة الغربية بقيادة أميركية، وتأثيرات الثقافات المختلفة تجعل لكل بلد و/أو منطقة خصوصيتها في التفاعل مع هذه الحضارة.

تشهد الليبرالية بمفهومها الاجتماعي توسعًا في العالم مقابل تراجع سياسي في أكثر الديمقراطيات عراقة، وتبدو نظرية "الأممية الليبرالية" وتبنيها أميركيًا، وتقسيم العالم لـ "معسكر ديمقراطي" مقابل آخر "استبدادي" جزء من التسويق الانتخابي الداخلي، وموجهة في الأساس تجاه النظامين الصيني والروسي لا يمكن تعميمها عالميًا، لافتقارها للواقعية في ظل حاجة الولايات المتحدة للآخرين ودعمهم لو أرادت أن تحافظ على تفوقها بعد نهاية لحظة "الأحادية" القطبية.

نظرية دور الاقتصاد في الصراع العالمي، تبدو واقعية إلى حد كبير ليس في الحاضر وحسب بل والماضي أيضًا (تصارعت الإمبراطوريات والقوميات في الأساس لأجل الاستحواذ على الثروات)، لكن ما لا يبدو واقعي اعتبار الاقتصاد النقطة المركزية للصراعات والتحالفات في العالم. الرفاهية الاقتصادية دون أمن بالمفهوم الشامل للأمن (الجيوبوليتيك) أو "الجيوسياسي" وامتلاك أدوات التأثير من خلال (السيادة) بمفهومها (الجيو-اقتصادي) تعني مرحلة مؤقتة و/أو نهضة اقتصادية مرهونة بالظروف الخارجية، ودور القوى الكبرى.

تمتلك روسيا، موارد بشرية مؤهلة، وموارد طبيعية لا حصر لها، ومساحة أراضي هي الأكبر في العالم، وموقع مميز في أوروسيا، لكنها بمفردها لا يمكن أن تستفيد من كل هذه المميزات لحاجتها للتكنولوجيا الغربية. انفتاحها الاقتصادي على الغرب وشركاته في ظل ضعف نفوذها الجيوسياسي على محيطها يعني تبعيتها (الجيو-اقتصادية) للدول والشركات الغربية. في المقابل، بقاءها معتمدة حصرًا على بيع المواد الخام، يعني تبديد لهذه الثروات دون الاستفادة المثلى منها، وعدم وجود مستقبل اقتصادي لها. لأجل علاج هذه المعضلة، شنت (من ضمن عدة أسباب أخرى) حربها الأخيرة على أوكرانيا، على أمل أن تُخضعها بالوسائل العسكرية بعدما فشلت سياسيًا، وهو ما سيؤدي بشكل تلقائي (وفق تصور موسكو) لخضوع بقية دول الجوار، ثم بدء مفاوضات من مركز قوة مع الغرب على قواعد الأمن والنفوذ في أوراسيا، وبعد حصولها على ما تريد، يمكن أن تنطلق اقتصاديًا، وتعوض كل ما خسرته من جراء الحرب، وتحقق نهضة مستدامة في ظل أجواء آمنة تحافظ على سيادتها (هذه هي المعادلة الروسية) بغض النظر عن نجاح روسيا من عدمه في تحقيقها، لكنها تبرز دور الجيوبوليتيك، كوسيلة لا غنى عنها لتحقيق النجاح الاقتصادي الآمن والمستمر.

روسيا كفيلة بما تمتلكه من ثروات مع رغبتها في عقد شراكة مع الغرب، على إثراء الاقتصاد الأميركي والأوروبي واستعادته لمركزيته العالمية. كانت الصفقة الروسية (دعوني أستعيد نفوذي في المجال ما بعد السوفيتي مقابل فتح خزائن روسيا للشركات الغربية وهو ما سيؤدي لإبطاء التقدم الصيني دون الحاجة لأي مواجهة مع بكين). على الرغم من ذلك، رفض الغرب هذه الصفقة، وفضل تحمل الخسائر الاقتصادية على (المدى القريب) وربما المتوسط من أن يمنح روسيا هذا النفوذ، الذي سيضمن لها رخاء اقتصادي تحت سيطرتها. الأمر يشبه تمامًا، أن تعرض إيران التوقف عن كل سياساتها العدوانية في المنطقة، مقابل إقرار من بلدان الخليج العربية بنفوذها في: (اليمن، ولبنان، والعراق، وسوريا)، وفتح المجال للاستثمار العربي في إيران وهذه البلدان، وهو ما سيحقق أرباح طائلة لبلدان الخليج، لكن كل هذه الأرباح والمكاسب ستكون مرهونة بالرضا الإيراني، وهو ما لا يمكن قبوله.

الصين، التي اتبعت معها الولايات المتحدة، نهج "المركزية الاقتصادية"، وقبلته بكين معتقدة أنه سيؤدي لرخاء اقتصادي لشعبها، وعلاقة سلمية مع الغرب، أدرك الطرفين فيما بعد حقيقة الصراع. أرادت الولايات المتحدة تقوية تايوان، والحفاظ على استقلالها الفعلي دون الرسمي، وتوسيع نفوذها الجيوسياسي في آسيا على حساب الصين لحصارها في مجالها الحيوي ثم استخدام التأثير (الجيو-اقتصادي) لشركاتها، وصولاً لخلق تغيير يؤدي لإنهاء حكم الحزب الشيوعي الصيني، وحكم البر الصيني من خلال جزيرة تايوان (عبر فرض النموذج التايواني)، وتحويل هذه الدولة الكبرى بمواردها وصناعتها لجزء تابع للمنظومة الأميركية. في المقابل أدركت الصين أن خيارتها محدودة. إما أن تقبل هذه المعادلة أو تؤجل لحظة الصدام ريثما توسع من نفوذها الجيوسياسي وترسخه عبر نفوذ (جيو-اقتصادي) لتصبح بكين هي المركز وتربط الأسواق بها فيما يسمى "الجنوب العالمي" بجانب الغرب، حتى لا تضطر لقبول الخيار الأول.

لأول مرة منذ العام (1991) بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تبدو في الأفق ملامح "استراتيجية أميركية" متماسكة للنظام العالمي، ويتوقع أن تترسخ خلال السنوات العشر المقبلة، لتصبح أكثر وضوحًا.
دفعت كل هذه المتغيرات العالمية والإقليمية دول مجلس التعاون الخليجي، لمركز الصدارة في المنطقة بعدما يسمى "الربيع العربي"، وأصبحت اليوم أحد أهم العوامل المرجحة لكفة القوى الكبرى في صراعها المحتدم.

مع وجود عدة مشروعات طموحة للرؤى: (رؤية 2030) السعودية - (رؤية أبوظبي 2030) الإمارات - (رؤية الكويت 2035) - (رؤية عُمان 2040). نجاح كل هذه الرؤى بجانب عدة أسباب أخرى، يعتمد على تأمين المجال الجيوسياسي لدول الخليج العربية، وما يتبعه من امتلاكها أدوات تأثير (جيو-اقتصادي) أكبر لضمان تحول هذه الرؤى لواقع قابل للتطور تنعكس آثاره الإيجابية على المنطقة بأكملها، وهو ما يستدعي الأخذ بعين الاعتبار كل هذه المتغيرات، واستغلال الصراع الحالي بين القوى الكبرى لتحقيق أكبر استفادة ممكنة.

في لحظة ما، ربما قد يضيق هامش المناورة الذي يبدو الآن واسعًا لدول الخليج العربية في علاقتها مع الغرب والصين وروسيا، وتجد نفسها بحاجة لموقف أكثر انحيازًا لطرف على حساب الآخر. لذا قد يكون من المفيد سرعة استغلال الوضع الحالي (تحوطًا بدلاً من التعويل على استمراره لفترة طويلة) لبناء استراتيجية أمن قومي شاملة، وعقد اتفاقيات أمنية واقتصادية بشرط مواتية.

قد يكون من المفيد بناء مجلس التعاون الخليجي، لتصوره الخاص (جيوبوليتيك بلدان الخليج العربية) للتعامل مع المتغيرات الدولية والإقليمية.

تظل الولايات المتحدة، وبالنظر لطبيعة أنظمة وتحديات خصومها، الأكثر تفوقًا واستقرارًا. مع مراعاة أن ظاهرة الاستقطاب السياسي ربما تطول وتصبح سمة عامة للسياسة الأميركية، وقد يكون من المفيد التعايش خليجيًا معها، وعدم انتظار تغيرها. وذلك، عبر حوار مع كافة الأطراف وبالتحديد من يطلق عليهم "اليسار الليبرالي" و/أو "التقدميين" داخل الحزب الديمقراطي، كونهم أصحاب الصوت الأعلى والأكثر تأثيرًا في الإعلام، وكذلك باقي التيارات الأخرى داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، تجنبًا لتحول علاقة أو تفضيلات دول الخليج مع حزب و/أو تيار أو شخص، لجزء من هذا الاستقطاب الداخلي.