تكشف المعرفة بالأنا والآخَر عن كثيرٍ من تَبَدّياتها الإيديولوجيّة لدى قسمٍ عريضٍ من الباحثين والمثقّفين العرب المعاصرين.

يَجَمَع هؤلاء - على ما بينهم من اختلافاتٍ في المنابت والمَشارب والتّوجّهات، جامعٌ عابرٌ لحدود تيّاراتهم الفكريّة: الإيديولوجيا؛ بما هي نمطٌ من الإدراك غيرِ المطابِق: من التّضليل والطّمس والتّعمية والتّحايل.. والخداع. يَحْملنا على هذه الوقفة ما لمسألة الأنا والآخَر من شديدِ اتّصالٍ بالنّظر الإيديولوجيّ - في ثقافتنا العربيّة كما في سائر الثّقافات - حتّى لتكادُ المسألةُ أن تكون في جملة أحكار النّظر الإيديولوجيّ لا يزاحِمُه على التّفكير فيها نظرٌ آخرٌ مقابلٌ أو مخالف، بحيث ينتظم فيه أمرُها (= المسألة)، وعلاقاتُ حدَّيْها، على مقتضًى من المعرفة آخر.

يعرف كلّ دارسٍ للإيديولوجيا، بما هي نمطٌ لوعي الأشياء، كيف تبدي كثيراً من وجوه المكر والمخادعة في فاعليّاتها، محاوِلةً إخفاءَ ما يمكن أن يشير فيها إلى استراتيجيّة التّضليل التي تُضْمِرها، وساعيةً - السّعيَ الحثيث - في البُدُوّ على قدْرٍ من "الموضوعيّة" و"النّقديّة" إلى الحدّ الذي يكفي كي يرفع عنها شُبهة الاغْتراض في عيون من يتلقّون خطابَها ومَن تنطلي عليهم حِيَلُها. من وسائلها التي تتوسّلها في لعبة المكْر تلك، مثلاً (ولعلّها تكون أفعلَ وسائلها وأَنْجحها)، الانتقائيّة في النّظر إلى موضوع مّا. والانتقائيّة - على ما هو معلوم في مجال نظريّة المعرفة - كناية عن فعْلٍ منهجيّ يتغيّا مَن يأتيه أسلوباً للدّرس انتزاعَ جزئيّةٍ من كليّةٍ، أو وجهاً بعينه من دون غيره من الوجوه، وتسليطَ الضّوء عليه بحسبانه تجسيداً للظّاهرة المدروسة أو تمثيلاً أميناً، وتَناوُلَه إمّا بالتّلميع أو بالتّشنيع، بالتّعريف والتّشديدِ والتّنويه أو بالنّقد، ثمّ تكريسَ النّظر إليه - من ثمّة - بما هو عينه الظّاهرةُ نفسُها لا جزئيّةً من كلِّها، وبما هو "الجوهر" لا العَرض ولا التّجليّ. والنّتيجة تحقيق البُغْية من هذا الضّرب من المقاربة الإيديولوجيّة: تضليلُ وعي المُخاطَب، أو استِزْلالُه إلى حيث يحْصُل لديه الاقتناع بوجاهة ما تحْمله تلك المقاربة والذّهول عمّا تنطوي عليه من مخادعةٍ لوعيه، وعمّا تتوسّله من وسائلَ لذلك أو ما تسلكه من طُرُقٍ/ حِيَلٍ لتزييف وعيه من خلال تنميط ذلك الوعي بأيّ ظاهرةٍ تَعْرِض نفسَها عليه.

ما أغنانا، في هذا المعرض، عن الحاجة إلى القول إنّ التّمثُّل الإيديولوجيّ للأشياء والأفكار والظّواهر والعلاقات والمؤسّسات لا يكون فِعْلاً واعياً نفسه دائماً وعلى وجه الضّرورة؛ أي لا يُدْرِك أنّه يصْدُر في تفكيره عن قصديّةٍ إيديولوجيّة؛ فقد يَحْتَمل أن يكون فعلاً موعًى به مِن قِبَل مَن أتاهُ وأقْدَم عليه، وقد يكون غيرَ موعًى به. على أنّ الفارق وسيعٌ بين الحالتين على صعيد المسؤوليّة العلميّة والأخلاقيّة؛ فحين لا يعي المرءُ زُلولَ قدمه إلى مستنقع الإيديولوجيا فيُلْفي نفسَه مستبطِناً لها على غير إدراكٍ، معيداً إنتاجَها في التّفكير، يسقط ضحيّةَ مفعولها في وعيه؛ أمّا حين يعي طبيعةَ ما يَفْعل واتّصالَ ما يفعل بأهداف إيديولوجيّة، مضْمَرَة أو مَجْهورٍ بها، يكون منخرطاً، حينها، في عمليّةٍ منظَّمَة من الإيقاع بوعي ضحايا آخرين في أحبولة الإيديولوجيا!

الأنا، في وعي إيديولوجيّ، واحدةٌ ونَمطيّة - أو مُنَمَّطَة - لا ثُلم في بنيانها ولا تَغيُّر في أحوالها. هي في ذلك الوعي ما الآخَرُ - هو أيضاً - فيه، أعني: واحداً، ثابتاً على هيئةٍ مستديمة لا طُروء عليها...إلخ. إذا كانت أنا العربيّ جملةَ ما يصنع له "ماهيته": ثقافته، حضارته، دينه، لسانه، تراثه، تاريخه الماضي والحاضر...، فالأنا هذه لا تنعكس في صورةٍ واحدةٍ داخل الثّقافة العربيّة - على الرّغم من أنّها أناً واحدةً في وعْي إيديولوجيٍّ لها غالبٍ وسائد - بل هي تتبدّى في صورٍ شتّى مختلفة باختلاف تيّارات القول فيها أو، قُل، باختلاف موقع النّاظر إليها من داخل الإيديولوجيا.

هذا ما يفسّر لماذا نَلْحظ ذلك الاستقطابَ الفكريّ (الإيديولوجيّ في الواقع) في النّظر إلى تلك الأنا بين زيدٍ وعمرو، وكيف ينتقل إلى داخل إشكاليّتهما عينُ الاستقطاب الذي يؤسِّس إشكاليّة الأنا والآخَر. ولكن، فيما هو مفهومٌ هنا من حيث هو يضع حدّيْ الإشكاليّة موضعَ قطبين متقابليْن، فإنّه لا يبدو مفهوماً في حالةِ مسألةٍ متكوِّنة من حدٍّ واحد لا مقابلَ له. إنّ منبع التّقاطُب هذا ليس من الظّاهرة نفسها، بل من وعْي الظّاهرة؛ هذا الذي يُسْبغ محتواهُ على الظّاهرة وكأنّه منها! ولا يشذُّ الآخَر، من جهته أيضاً، عن هذه القاعدة في ذلك الوعي الإيديولوجيّ؛ فهو، بدوره، واحدٌ ونَمَطيّ لا يطرأ على معناهُ و"ماهيتِه" تَبدُّل!؛ كما أنّ الوعي العربيّ ينقسم عليه، انقسامَه على الأوّل، فيُنتج داخل إشكاليّته تَقاطُبيّةً شبيهةً بتلك التي تنتظم علاقات الأنا بالآخَر.