في هذه الأيام يكثر الاستذكار العراقي لحركة احتجاجات تشرين الباسلة والجريئة.

على امتداد ستة أشهر تقريباً بين الأول من أكتوبر/تشرين الأول في عام 2019 وحتى أبريل/نيسان 2020 تجمع وتظاهر عدد هائل من العراقيين في العاصمة بغداد وكل محافظات وسط البلد وجنوبه ضد الطبقة السياسية الحاكمة التي أساءت استخدام السلطات والموارد العامة وحولتها لمصلحة احزابها وليس المجتمع. مع هذا الاستذكار السنوي، تكثر التقييمات ايضاً بخصوص معنى تشرين ونتائجها، بإزاء التضحيات التي قدمتها (560 محتجاً فقدوا حياتهم بسبب السلاح الحكومي والميليشياوي، ومئات المعاقين ونحو 20 ألف جريح).

قدمت الحكومة تعويضات لعوائل الضحايا واعتبرتهم شهداء وبذلت جهوداً لعلاج المعاقين والجرحى في مستشفيات داخل البلاد وخارجها. لكن لم تقدم الحكومة الفاعلين، لا الذين كانوا وراء أوامر استخدام السلاح ضد المحتجين السلميين، ولا منفذي هذه الأوامر رغم الوعود والتعهدات الرسمية بهذا الصدد. أيضاً، يبجل الخطاب الحكومي والسياسي الحاكم تشرين وضحاياها ويعتبرها حركة إصلاحية مشروعة بسبب أخطاء الحكم. هذا الخطاب الرسمي مخاتل، فخطاب الأحزاب السياسية المهيمنة والفصائل المسلحة المتحالفة معها، إذ يمسك الإثنان بدفة الحكم، هو الذي تولى شيطنة الاحتجاج التشريني واتهامه بشتى تهم العمالة، فضلاً عن الدور الفعلي الذي قامت به الفصائل المسلحة بقمع التشرينين وملاحقتهم.

عندما خرج التشرينيون في احتجاجهم المفاجئ والعفوي في الأول من أكتوبر/تشرين الأول في 2019، كان شعارهم البسيط والعميق في الوقت ذاته، بالعامية العراقية، هو "نريد وطن." قصدوا بهذا الشعار الذي نالَ إعجاباً واحتراماً شعبياً واسعاً لأنه حدد المشكلة بوضوح بسيط وثاقب— وعَبَّر عما يشعره به كل العراقيين تقريباً من غير أهل السلطة والأحزاب المتنفذة— أن تعامل الدولة مواطنيها العراقيين على نحو يحترم كرامتهم الإنسانية: خدمات أساسية جيدة وبنية تحتية رصينة وفرص اقتصادية حقيقية وحكم قانون يُطبق على الجميع بمساواة.

بعد أربع سنوات من رفع هذا الشعار وموت المئات من المحتجين في ظله، لم يتحقق أي شيء منه، بل يحاجج كثيرون إن الأمور أشد سوءاً اليوم مما كانت عليه عند اندلاع الاحتجاج التشريني. حتى المكاسب السياسية التي حققتها تشرين حينها: إجبار الحكومة على الاستقالة (بعد أن منحها الاحتجاج صفتها التعريفية الصحيحة التي سترافقها في المستقبل "حكومة القناصين" في اشارة الى قتلها المحتجين برصاص القناصة في الأيام الأولى للاحتجاج)، وإجراء انتخابات مبكرة في ظل قانون انتخابي جديد ومنصف، حتى هذه المكاسب تم التراجع عنها، بعد انقضاء فترة حكومة مصطفى الكاظمي. فالقوى التي شيطنت الاحتجاج وحاربته والتفت على مطالبه المشروعة هي التي تحكم البلاد اليوم. تتصرف هذه القوى بمقدار عال من الثقة كاشف عن الإحساس السائد بينها بأن انتصارها على خصومها من التشرينيين وغيرهم، خصوصاً الصدريين، هو نهائي ودائم. تساهم التقييمات اليائسة، العاطفية غالباً والفقيرة منطقياً، التي يقدمها تشرينيون ومتعاطفون مع تشرين، في تكريس مشهد هذا الانتصار النهائي.

في سياق هذه التقييمات، تُعاد صياغة البديهيات وتُتَجاهل الوقائع ويُساء فهم معنى الاحتجاج الشعبي لصالح التمنيات والمثاليات التي تصل حد التعجيز. عبر هذا كله، يُعاد تعريفَ معنى المسؤولية والأفعال ويصبح المحتجون سببَ الفشل وليس أحزاب السلطة التي صنعت كل هذا الخراب ومارست القمع المعروف والموثق ضد الاحتجاج والمحتجين. انتجت هذه التقييمات مقولاتها المغلوطة التي يردد بعضها محتجون ومتعاطفون مع الاحتجاج: كان على تشرين أن تكون لها قيادة واحدة، كان ينبغي أن يكون لهم مطالب محددة ينقلونها عبر ممثلين للتفاوض مع السلطة، كان ينبغي أن يتوحدوا حول رؤية سياسية واحدة، كان عليهم ألا يسمحوا "باختراق" صفوف الاحتجاج من جانب "المندسين"، ألا يقطعوا الطرق في أثناء احتجاجهم ألا يحرقوا اطارات السيارات وغيرها كثير مما ينسف اصلاً معنى الاحتجاج الشعبي. كانت احزاب السلطة تبحث عن محتجين خاصين يناسبون مقاساتها وينتظمون في احتجاج أرستقراطي أنيق لا يزعجها، ويسوده التنظيم العالي والدقيق في كل شيء ولا يؤثر في الحياة العامة، فيما هي تدير البلد بفوضى عالية ومستمرة، وتنهب موارده وتفسد حاضره وتدمر مستقبله. في 2011 عند تصاعد الاحتجاجات ضد الحكومة بزعامة نوري المالكي، طالب الرجل أن يذهب المحتجون الى ملعب الشعب في بغداد ويتظاهرون فيه كي لا يؤثروا على الحياة العامة. في حينها، حددت قوات الأمن العراقية ثلاثة ملاعب كرة في العاصمة كي يتجمع فيها المحتجون والقيام باحتجاجهم هناك، وكأنهم مشجعون رياضيون!!! كان هم السلطة حينها هو إبعاد المحتجين عن ساحة التحرير في وسط بغداد وقلب الحياة فيها وعزلهم في أماكن بعيدة يسمع فيها المحتجون فقط أصوات بعضهم الأخر وبالتالي يفقد احتجاجهم تأثيره

في تاريخ الاحتجاجات الكبيرة والناجحة في العالم، من الثورة الفرنسية في 1789 إلى الثورة المصرية التي أطاحت بحكم حسني مبارك في 2011 وقبلها الثورة التونسية التي أطاحت بالحكم الدكتاتوري لزين العابدين بن علي، لم يقدم المحتجون حلولاً للمشاكل أو يطوروا رؤية سياسية موحدة، فالحلول والرؤى هي مهمة السلطة والمؤسسات وليس المحتجين. في أثناء الثورة الإيرانية، بين 1976 و1979، عطل المحتجون الكثير من مظاهر الحياة العامة: احرقوا الإطارات وأوقفوا إنتاج النفط وقطعوا الكهرباء وسدوا الشوارع واغلقوا المدارس واخرجوا حتى الأطفال للمشاركة في الاحتجاج! في الاحتجاج العراقي الشجاع ضد سلطة نظام صدام حسين في 1991 حَصلَ أكثر من هذا بكثير مما يخرج عن المعايير الدولية المقبولة للاحتجاج بضمنها قتل مسؤولين وبعثيين وحرق للجثث وتمثيل بها ونهب للمستشفيات والمؤسسات العامة في إطار غضب شعبي هائل مشروع ومفهوم قاد الى مثل هذه الأفعال غير الانسانية وغير القانونية. مع ذلك تحتفل أحزاب السلطة بهذا الاحتجاج عندما كانت في المعارضة وبعد توليها الحكم (وهو يستحق الاحتفاء به في جوانبه الايجابية الأهم والأكبر).

الاحتجاج الشعبي هو ضغط على سلطة ظالمة وازعاج هائل لها وصولاً، إذا تطلب الأمر، إلى شل مؤقت للحياة العامة لإجبارها على الإصلاح أو التنحي. ليس فقط السجل التاريخي هو الذي يقول هذا، بل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي تتصدرها الحق بحرية التعبير.

تشرين لم تفشل، كانت وما تزال أهم ما حصل في العراق منذ تأسيس الدولة فيه حتى الآن. أسبابها الأصلية ما تزال قائمة وتزداد بإضافة اسباب جديدة لها. هي ايضاً لم تنته لأنها تأسيس جوهري وأصيل وراسخ وممهد لما سيأتي بعدها. تكمن أهمية تشرين في انها إعلان شعبي بانفصال المجتمع عن السلطة. بمرور الزمن واستمرار تغول السلطة وأحزابها في سياق رفضها تعلم الدروس وتعديل السلوك، يتأكد هذا الانفصال ويتسع ويتعمق. ما بعد هذا واضح ومعروف. ما هو غير واضح وغير معروف هو التوقيتات والظروف: توقيتات النهايات وسيناريوهاتها.