انتهت الحرب الرابعة بين أذربيجان وأرمينيا بحسم سريع للصراع بين البلدين على إقليم ناغورنو كاراباخ ذو الأغلبية الأرمنية التي غادر معظم سكانها الإقليم إلى جمهورية أرمينيا في هجرة قد تكون نهائية.
لكن انتصار أذربيجان لا يعني أن الصراع على جنوبي القوقاز سيهدأ لا بل بالعكس.
فقد شكلت الجولة الرابعة من الحروب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا نهاية دراماتيكية لرحلة الجمهورية الانفصالية في إقليم ناغورنو كاراباخ الواقع في قلب جمهورية أذربيجان.
وقد بدا أن الحلف التركي- الأذربيجاني نجح في تسجيل نقاط ثمينة في نطاق الصراع الأكبر على جنوبي القوقاز والممرات الاقتصادية التي تعبره لتصل أوروبا بآسيا الوسطى حيث تقطن معظم الجمهوريات السوفيتية السابقة غالبية متحدرة من أصول تركية.
فمع تصفية الإقليم الأرميني بالقوة، تكون تركيا حققت هدفا نوعيا على طريق فتح ثغرة استراتيجية توصلها عبر الممرات البرية (طرق وسكك حديد وأنابيب) إلى قلب آسيا الوسطى، ومنها إلى الصين.
والحقيقة أن حسم الحلف التركي – الأذربيجاني للصراع مع أرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ ما كان ليتحقق لولا تراكم عناصر الضعف التي أصابت روسيا في أعقاب الحرب مع أوكرانيا.
وذلك على أصعد مختلفة، أهمها تشتت قدراتها العسكرية، وانشغالها بخوض حرب بالوكالة مع حلف شمال الأطلسي، مما قلص قدراتها على التدخل في "الجوار القريب" وفق التسمية الروسية، مثل منطقة جنوب القوقاز التي تضم 3 جمهوريات سوفيتية سابقة استقلت مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 هي أذربيجان وأرمينيا وجورجيا.
لقد حاولت موسكو في الأعوام الأخيرة ان تلعب دور الوسيط بين باكو ويريفان، وتمكنها بعد حرب 1996، التي هزمت فيها باكو، ثم في حربي 2020 و2022، حيث مالت الكفة إلى جانب أذربيجان.
فقامت بوساطات سياسية لخفض التوتر وللفصل بين القوات على الأرض من خلال انتشار قوات سلام روسية، غير أن مؤشرات ضعفها أثرت سلبا على موقعها كضامن للاستقرار ضمن منطقة نفوذها المفترضة.
أما التحول الكبير فقد حصل بعد تعثر الحرب الروسية في أوكرانيا صيف 2022، فبانت حدود القدرات الروسية، لا بل حدود النفوذ الروسي الفعلي في "الجوار القريب" الذي تعتبره موسكو مداها الحيوي، وتسعى على الدوام لفرض نفوذها فيه.
وحسب العقيدة الاستراتيجية الروسية يمتد "الجوار القريب" من أوروبا الشرقية بما فيها منطقة البلقان، إلى القوقاز، وصولا إلى آسيا الوسطى.
ومعظم هذه المناطق أو الأقاليم تضم جمهوريات سوفيتية سابقة استقلت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، لكنها ظلت فيما بعد تدور بشكل أو بآخر في فلك النفوذ الروسي.
أتت حرب أوكرانيا لتغير في المعطى الاستراتيجي الروسي. فالتعادل السلبي في الحرب بين روسيا وأوكرانيا المدعومة من حلف "الناتو" عكس صورة روسيا ضعيفة نسبيا، وغير قادرة على حسم حرب مع جارتها الأصغر.
فضلا عن أن العقوبات الغربية عليها أثرت سلبا على الاقتصاد بشكل عام.
كل هذا دخل في حسابات دول "الجوار القريب" الروسي التي بدأت الواحدة تلو الأخرى في مراجعة علاقاتها مع موسكو تحت عنوان خفض النفوذ الروسي فيها وتوسيع هوامش الاستقلالية عنها.
على سبيل المثال ظهر ذلك بشكل جليّ في آسيا الوسطى، لاسيما في كازاخستان كبرى جمهورياتها التي آثرت مع اندلاع حرب أوكرانيا أن تقف في الوسط بين روسيا والغرب. توازيا عززت من علاقاتها مع الجارة الكبرى الأخرى أي الصين من أجل تحقيق توازن بمواجهة أي ضغوط روسية مقبلة.
إن المشهد في جنوب القوقاز لا يختلف عن المشهد في الأقاليم الأخرى في الجوار الروسي القريب.
فجمهورية جورجيا تعزز من علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكنها تحافظ على علاقة جيدة مع موسكو.
أما أذربيجان التي انتزعت تواطؤا روسيا معها في صراعها مع أرمينيا، فخيارها الأول هو الحلف مع تركيا، وعينها على الانضمام فيما بعد إلى حلف "الناتو".
وبالنسبة إلى أرمينيا فإنها تبتعد عن موسكو فيما تقترب من إيران على أمل إقامة توازن مع الدور التركي، وقد ذهبت مؤخرا في مسار ابتعادها عن روسيا إلى الاشتباك السياسي معها، والاشتراك في مناورات عسكرية مع الولايات المتحدة.
ما تقدم يفسر إلى حد ما أسباب انفجار الصراعات تحت عنوان لعبة الأمم في أقاليم كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي.
وحاولت موسكو الاحتفاظ بمكانتها كدولة النفوذ الأول فيها. لكن حرب أوكرانيا قلبت الصورة. فانفجرت نزاعات الحدود، والنفوذ، والممرات الاقتصادية بشكل دائري حول الاتحاد الروسي. وهي مرشحة للتوسع في أنحاء الدائرة.