تشهد منطقة جنوب القوقاز، منذ العام 2020، بعد حرب أرمينيا وأذربيجان، عدة تطورات مهمة، تعيد تشكيلها من جديد، بعدما ظلت أسيرة الصراعات العرقية والنزاعات الحدودية، منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.

وحسمت أذربيجان إلى حد كبير صراعها المزمن مع أرمينيا، الذي شكل عقبة أمام قيام تعاون إقليمي ومع بقية دول العالم في هذه المنطقة التي زادت أهميتها الاستراتيجية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو ما قد يبشر بعهد جديد وسط رغبة شعوبها بالتحول نحو سياسات تركز على الازدهار والرفاهية، والتحرر من الأيديولوجيات الماضوية، في ظل ما تمتلكه من مقومات تكفل لها النجاح في تحقيق هذه الرغبة، وامكانيات واسعة لخلق تعاون مثمر وبناء مع بلدان الخليج العربية.

جنوب القوقاز... نبذة تاريخية

ينقسم القوقاز لشمال يقع الآن داخل حدود الاتحاد الروسي، وجنوب تبلغ مساحته الاجمالية (186.100 كـم2)، يحتوي على العديد من الأعراق والقوميات، وكان عبر التاريخ مسرحًا لصراعات القوى العظمى حتى التاسع عشر، بين القاجاريون والعثمانيون والروس، حتى سيطر الأخيرين عليها عام 1844.

بعد قيام الاتحاد السوفيتي رسميًا عام 1922، تأسست جمهوريات ثلاث سوفيتية فيدرالية، دون مراعاة للتجانس العرقي والقومي، وفق المبدأ الذي وضعه يوسف ستالين، لخلق كيانات مفخخة غير قابلة للحياة بسلام دون الاعتماد على المركز في موسكو.

بعد العام 1991، ظهر للوجود ثلاث دول ذات سيادة: جورجيا- أرمينيا- أذربيجان، وتفجر الصراع فيما بينهم على الحدود، وداخلهم على الهوية، أدت لسلسلة من الحروب والصراعات الأهلية، افضت لتحالف وثيق بين جورجيا وأذربيجان، وخصام وصراع بين البلدين مع أرمينيا.

نشأ تعاون كبير في كافة المجالات بين جورجيا وأذربيجان، وصولاً لممرات تجارية مشتركة ذات أهمية استراتيجية كبرى، ولكن التعاون الأكبر ظل معطلاً نتيجة تصلب الأيديولوجية القومية الأرمينية، وانحيازها للماضي على حساب الحاضر، واستغلال السياسيين الأرمن ما بعد الاتحاد السوفيتي، لقضية الشتات الأرمني في جورجيا، واستعادة الأراضي التاريخية "السليبة" من قبل أذربيجان وفق زعمهم، كوسيلة للبقاء في السلطة دون محاسبة على فسادهم وسوء إدارتهم.

جنوب القوقاز الآن

في الفترة من 31 مارس إلى 8 مايو 2018، حدث متغير داخلي في أرمينيا، غير تركيبتها السياسية، وذلك بعدما تمكن السياسي الليبرالي نيكول باشينيان، من قيادة ثورة سلمية من الأسفل، دعمه فيها الشباب، للتخلص من حكم الرئيس سيرج سركسيان، وحزب أرمينيا الجمهوري، ذو التوجه القومي المحافظ، الذي هيمن على السلطة والثروة منذ استقلال البلاد، بجانب حلفاءه من القوميين المتشددين.

حزب العقد المدني، ذو التوجه الليبرالي الغربي، الذي يقوده باشينيان، وضع نصب عينيه منذ وصوله إلى السلطة عام 2018، تخليص أرمينيا بشكل تدريجي من الماضي، وإعادة تشكيل خريطة تحالفاتها الخارجية عبر التقارب مع بروكسل وواشنطن، وتصفية قضية إقليم قره باغ (آرتساخ وفق التسمية الأرمينية)، واعتبارها مجرد "خلاف عقاري" لا "قضية وطنية" لتحرير السياسة الخارجية الأرمينية من ارتباطها بموسكو تحت ذريعة أنها الحليف الوحيد القادر على دعم يريفان للحفاظ عليها.

في الفترة من 27 سبتمبر إلى 10 نوفمبر 2020، تجدد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، فيما اصطلح على تسميتها "حرب الـ 44 يومًا"، وكان من نتائجها هزيمة ثقيلة لأرمينيا، وانتصار كبير لأذربيجان، استغلها باشينيان، في قيادة "هجوم مضاد" على خصومه السياسيين حلفاء موسكو، عبر التلميح بعدم جدوى التحالف معها، وانعدام قيمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، والتشكيك في كفاءة الأسلحة الروسية.

نتيجة لما أسفرت عنه نتائج الحرب، تم اجراء انتخابات برلمانية مبكرة في 20 يونيو 2021، وأسفرت عكس ما بدا متوقعًا عن فوز باشينيان وحزبه العقد المدني، بأغلبية مقاعد البرلمان بنسبة 53.96%، وهو ما اعتبر استفتاء على نهجه، ودعمًا من الأغلبية الأرمينية لبقائه في السلطة، وعدم اكتراث الشباب لهذا الصراع، وتطلعه نحو المستقبل وعلاقة وثيقة مع الغرب.

الحرب الأخيرة أو "حرب اليوم الواحد" من 19 إلى 20 سبتمبر، التي أدت لاستسلام قره باغ/ آرتساخ، كانت بمثابة نصر جديد لباشينيان، حيث لم يتدخل في الصراع، وترك رئيس الإقليم الغير معترف به سامفيل شهرامانيان، في مواجهة أذربيجان منفردًا، كونه الأخير حليف وثيق لموسكو، كثيرًا ما زايد على باشينيان، وانتقد سعيه لعقد تحالفات غربية، ليظهر ضعفه وعجز قوات حفظ السلام الروسية عن حماية الأرمن في الإقليم، وبالتالي أحرج كلا الطرفين، وبدا منطقه بضرورة التوجه غربًا أكثر منطقية.

يمكن القول أن باشينيان، قد حرر الأرمن من الماضي، وحرر أرمينيا من تحالفها الذي يراه معطًا لازدهارها مع روسيا، وأظهر أمام الشعب أن هذا التحالف وحلفاءه من السياسيين الأرمن في الداخل عديم الجدوى، وهو ما عبر عنه في خطابه الأخير، في ظل توافد كبار السياسيين والمسؤولين من أوروبا والولايات المتحدة على يريفان، لعقد لقاءات معه للترتيب للمرحلة المقبلة، وتوقيع اتفاقية سلام مع أذربيجان، لإنهاء هذا النزاع التاريخي، وفتح المجال أمام تعاون أرمينيا مع جيرانها.

إمكانات التعاون الخليجي

تقع المنطقة ما بين بحرين هامين في مشاريع الممرات التجارية الدولية الجديدة (قزوين والأسود)، بجانب موقع استراتيجي على حدود أوروبا الشرقية وجنوب غرب آسيا، ومرتبط بحدود برية مع روسيا وتركيا وإيران. وهو ما يجعلها تمثل رابط ما بين الصين وبلدان آسيا الوسطى وروسيا وتركيا وإيران وأوروبا.

يوجد في المنطقة بنية تحتية لعدة خطوط برية تجارية للشاحنات والسكك الحديدة منذ الحقبة السوفيتية، تعطلت نتيجة الصراعات الحدودية، التي شكلت أرمينيا العقبة الرئيسية في إعادة احياءها. الآن بعد تغيير التوجهات السياسية الأرمينية، والدعم الشعبي الذي يحظى به باشينيان، ورغبته الجادة في إقامة علاقة تعاون مثمرة مع تركيا وأذربيجان وجورجيا، يمكن أن تعود هذه الخطوط للعمل من جديد، وهو ما سيساهم في حركة التجارة وازدهارها بالمنطقة.

بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وتعطل الطريق الرابط بين الصين وأوروبا عن طريق روسيا، يشهد خط "الممر الأوسط الشمالي"، ازدهارًا كبيرًا، وهو الرابط بين الصين وآسيا الوسطى من خلال كازاخستان مرورًا ببحر قزوين إلى أذربيجان ثم تركيا ومنها إلى أوروبا. يمكن ربط هذا الطريق بخط "باكو- يريفان"، وامتداده إلى تبليسي في جورجيا، والخط البري المقترح بين تركيا والإمارات المسمى "الطريق الجديد"، لربط آسيا الوسطى وجنوب القوقاز مع تركيا، وضفتي الخليج الإيرانية والعربية عبر الإمارات، وكذلك خط رشت-بحر قزوين (شمال) من روسيا إلى الهند عبر مسار: سانت بطرسبرغ- موسكو- أستراخان- باكو- بندر عباس، ومنها إلى مومباي في الهند. باختصار، يمكن ربط كافة هذه المسارات أو أكثرها جدوى اقتصادية بالإمارات، لتكون بوابتها إلى دول الخليج، وصولاً للسعودية ومنها إلى باقي البلدان العربية.

تزخر بلدان جنوب القوقاز، بثروات طبيعية من النفط والغاز، وغيرها من الثروات الباطنية، وبحاجة لاستثمارات مالية ضخمة، بجانب استثمارات في مجال البنية التحية وإعادة الاعمار، والموانئ والمطارات، حيث مازالت المنطقة بكر، وبحاجة للاستثمار في كل شيء تقريبًا، وهو ما يوفر فرص استثمارية جديدة وذات جدوى اقتصادية لدول الخليج، وإمكانية ربطها بمشاريع الرؤى الإماراتية والسعودية.

ازدهار المنطقة، وتوسع الطبقة الوسطى فيها، يوفر سوق جديد استهلاكي للسلع وقطاع الخدمات الخليجي، بجانب امتلاك البلدان الثلاث، مقومات سياحية متنوعة، سواء في السياحة العلاجية والبيئية والطبيعية والتراثية، لكنها بحاجة لمنشآت فندقية جديدة ذات مستوى لائق، وهو باب آخر للاستثمار، ومنفذ جديد للسياحة الخليجية في مناطق ذات طبيعة خلابة، وبأسعار مقبولة للغاية.

يضاف إلى ما سبق، ثروة زراعية وحيوانية، مازالت تدار بالطرق البدائية القديمة، يمكن الزيادة من قدراتها الإنتاجية عبر الاستثمار الخليجي، وتوفير سلع غذائية تساهم في سياسات الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي.

الخاتمة

يمثل الوجود الخليجي في المنطقة، عنصر توازن إقليمي مع إيران وتركيا، وكذلك مع إسرائيل، التي تمتلك علاقات قوية للغاية ومتنامية مع أذربيجان وجورجيا، وعامل توافق بين مصالح القوى الكبرى الأربعة الصين، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، ودول الخليج العربية تمتلك علاقات مميزة وتتمتع بموثوقية مع كافة هذه القوى، وهو ما يؤهلها لخلق توافقات بين مصالح كافة هذه القوى واستفادتها منها جميعًا اقتصاديًا، وامتلاك أدوات تأثير جيوسياسي وجيو-اقتصادي، وهو ما يحتاج لمزيد من الدراسات لتحديد الأولويات، وكيفية خلق تعاون مثمر بين الطرفين.