على الرغم من أن التحالف الغربي يسعى حثيثا لاستقطاب الهند إلى جانبه في صراعه مع الصين، لكنه الآن في مأزق حقيقي بعد اتهام رئيس وزراء كندا، العضو في تحالف "العيون الخمس" الأمني، الهند باغتيال مواطن كندي سيخي هندي الأصل في فانكوفر.

ويضم تحالف "العيون الخمس"، (Five Eyes)، الدول الناطقة بالإنجليزية، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندة، وهو تحالف قديم تأسس رسميا عام 1946، مع بداية الحرب الباردة، ويستمد اسمه من الحرف (i) الذي يرمز إلى المعلومات الأمنية الاستخبارية (intelligence)، والذي يشترك مع "العين"، (Eye)، في تماثل النطق والمعنى، فالعين تشير أيضا إلى الرقابة والتفحص والتحقق.

وتتبادل دول التحالف الخمس المعلومات الأمنية المتعلقة بمواطنيها، من أجل محاربة الجريمة المنظمة، ودحر التهديدات المحتملة لأمنها الداخلي، وأي مواطن من مواطنيها يرتكب جريمة أو مخالفة مخلة بالأمن، لا يمكنه السفر إلى أي من دول التحالف، لأن دولته تقدم المعلومات المتعلقة به إلى باقي الأعضاء.

وقد بنى التحالف على النجاح الذي حققه التعاون الاستخباري والمعلوماتي بين بريطانيا وأمريكا أثناء الحرب العالمية الثانية، وبدأ بعضوية بريطانيا وأمريكا فقط، لكن بريطانيا سعت إلى توسيعه بحكم علاقاتها الثقافية والسياسية الوثيقة مع الدول الثلاث الأخرى المنضوية تحت لواء التاج البريطاني، وهي كندا وأستراليا ونيوزيلندة، فانضمت إليه كندا عام 1948، وأستراليا ونيوزيلندة عام 1956.

هناك تحالف أمني غربي آخر يسمى "العيون التسع" (Nine Eyes) ويضم، بالإضافة أعضاء "العيون الخمس"، أربع دول أخرى، هي فرنسا وهولندا والدنمارك والنرويج. وإضافة إلى التحالفين الأمنيين السابقين، هناك تحالف أمني غربي أوسع، وهو تحالف "العيون الأربع عشرة" أو (Fourteen Eyes)، الذي يضم بالإضافة إلى (العيون التسع) كلا من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا والسويد.

ولا شك أن التعاون الأمني الآن يشمل دولا غربية عديدة أخرى، فهناك الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة، وهي كلها دول غربية تسعى للاندماج معا في دولة واحدة مستقبلا، ولديها الآن تعاون أمني منظم. وهناك دول أخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية متحالفة مع الولايات المتحدة والغرب عموما، أو قريبة منه، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وتايلند، وفي مصلحتها أن تتعاون مع التحالفات الأمنية الغربية.

ويجب ألا ننسى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، التي تضم 57 دولة موزعة في قارات أربع، وتضم دولا كبيرة كالولايات المتحدة ودولا صغيرة كأندورا وسان مارينو، ودولا معنوية كالفاتيكان. بل هناك دول أخرى مشاركة ومتعاونة معها في مناطق أخرى، منها أستراليا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وجنوب شرق آسيا.

وكان رئيس الوزراء الكندي، جستن ترودو، قد اتهم في خطاب له أمام البرلمان الكندي، الحكومة الهندية بالوقوف وراء اغتيال المواطن الكندي السيخي، هارديب سينغ نِجّار، الذي تعتبره الهند إرهابيا لتعاطفه مع الانفصاليين السيخ، المطالبين بإقامة دولة (خالستان) السيخية في إقليم البنجاب الهندي.

ولم يكن الاتهام الكندي مجرد احتجاج عابر، بل تبعه تشاور مع الولايات المتحدة وبريطانيا حول الأمر، الذي تعتبره كندا خطيرا جدا، ويبدو أن لدى الحكومة الكندية أدلة تبرر هذا الاتهام، على الرغم من أن الهند نفت بقوة أن تكون لها أي صلة بالحادث، الذي وقع خارج معبد سيخي (غوردوارا) في فانكوفر. وقال ترودو إنه ناقش الموضوع مع رئيس الوزراء الهندي، ناراندرا مودي، أثناء مؤتمر القمة الأخير للدول الأعضاء في (جي 20) المنعقد في دلهي، "وإنه يتوقع من الهند أن تتعاون في التحقيق الجاري في هذه الجريمة".

وأضاف ترودو في كلمته أمام البرلمان أن "أي تورط لدولة أجنبية في اغتيال مواطن كندي على التراب الكندي هو أمر غير مقبول، ويشكل انتهاكاً للسيادة الكندية".

وتلى كلمة رئيس الوزراء، إعلان وزيرة الخارجية الكندية، مَلَني جولي، إبعاد مدير وكالة المخابرات الهندية في كندا، الأمر الذي دفع الهند إلى إبعاد دبلوماسي كندي وتعليق إصدار التأشيرات للمسافرين الكنديين إلى الهند في السفارة الهندية. كما نفت الخارجية الهندية نفيا قاطعا ما سمَّته "الاتهامات غير المعقولة" التي وجهتها كندا للهند، قائلة إن كندا لم تقدم للهند أي دليل على تلك الاتهامات. وفي الوقت نفسه اتهمت كندا بإيواء "الإرهابيين الخالستانيين الانفصاليين".

وكانت قضية "خالستان" ساخنة في فترة الثمانينيات والتسعينيات، إذ أقدم المتعاطفون السيخ معها، من حرس رئيسة الوزراء الهندية البارزة، إنديرا غاندي، على اغتيالها في 31 أكتوبر عام 1984، وتسبب ذلك الاغتيال في إشعال موجة من أعمال العنف ضد السيخ في الهند. ويقدِّر خبراء عدد ضحايا أعمال العنف تلك، بثمانية آلاف شخص. لكن الاهتمام بالقضية خًفُتَ كثيرا في السنوات العشرين الأخيرة، ومن هنا فإن اغتيال الناشط السيخي في كندا قد يعيدها إلى الواجهة مرة أخرى.

المعارضة الهندية، المتمثلة في حزب المؤتمر الهندي، الذي يتزعمه راهول غاندي، حفيد رئيسة الوزراء المغدورة، إنديرا غاندي، لم تختلف في خطابها عن الحكومة، إذ دانت ما سمته بـ "الإرهاب" ودعت الحكومة إلى عدم التساهل معه. كما أشارت افتتاحيات صحفية هندية عديدة إلى "فشل كندا في التعامل مع التطرف السيخي"، متهمة رئيس الوزراء الكندي بـ"التواطؤ" مع الإرهابيين.

ولم يخفِ رئيس الوزراء الهندي، ناراندرا مودي، استياءه من الحكومة الكندية خلال مؤتمر قمة مجموعة العشرين الأخير الذي استضافته الهند، فقد خص رئيس الوزراء الكندي، جستن ترودو، باستقبال غريب، بدا هزليا ومستهجَنا، إذ لف رقبته بوشاحِ حرير أبيض أثناء الاستقبال! وفي الوقت الذي أجرى فيه مودي مباحثات طويلة مع قادة مجموعة العشرين، فإن لقاءه مع رئيس الوزراء الكندي لم يدُم سوى عشر دقائق!

المعروف عن رئيس الوزراء الهندي أنه شعبوي، ويولي أهمية قصوى لتأجيج العواطف القومية بين أتباعه كي يحفز عندهم الحماس، خصوصا وأنه يستعد لانتخابات عامة في العام المقبل. وما يشجعه على ذلك هو النمو الاقتصادي الهندي المتواصل، والتقدم الذي أحرزته الهند في مجالات عديدة، خصوصا في مجال السياسة الخارجية، واهتمام الدول الغربية بالهند لتحل محل الصين كدولة عظمى. لكن التعامل مع الدول الأخرى يجب أن يكون متَّسِقا مع الأعراف والقوانين الدولية، ويجب أن يخلو من الاستهداف الشخصي للمسؤولين، كي يكون مثمرا.

كندا دولة مهمة عالميا، وشعبها متنوع الأعراق والأديان، وفيها أكثر من 800 ألف مواطن كندي سيخي، حسب مجلة (تايمز)، وهي دولة ديمقراطية وعضو مؤسس في حلف الناتو ومجموعة الدول الصناعية السبع. وبالإضافة إلى أنها جارة للولايات المتحدة، فإنها تتمتع بعلاقات وطيدة معها، إضافة إلى علاقاتها التأريخية والأمنية مع بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندة والاتحاد الأوروبي.

ويعكس لجوء الحكومة الكندية إلى التشاور مع الولايات المتحدة وبريطانيا في قضية اغتيال الناشط السيخي، الأهمية القصوى التي توليها كندا لسلوك الهند، الذي صار يقلق دولا أخرى، في وقت تسعى فيه الدول الغربية، بما فيها كندا، إلى توطيد علاقاتها مع الهند من أجل إبعادها عن الصين. 

وعلى الرغم من حراجة الموقف والتوقيت، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، الأعضاء في تحالف "العيون الخمس"، لا تستطيع إهمال اتهام رئيس الوزراء الكندي الهند بالوقوف وراء عملية الاغتيال على الأراضي الكندية، الذي لم يأتِ من فراغ، لذلك اضطرت إلى إصدار بيانات عبرت فيها عن "القلق العميق من الاتهامات التي أشار إليها رئيس الوزراء الكندي"، ودعت الهند إلى التعاون مع كندا في التحقيق في القضية.

وكانت كندا قد شهدت أعمالا إرهابية متعلقة بقضية (خالستان)، إذ أقدم متطرفون سيخ على تفجير طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية الهندية، متوجهة من مونتريال إلى لندن عام 1985، أودى بحياة ركابها الـ 329، وكان معظمهم كنديين. وقد تصدت السلطات الكندية باستمرار للمتطرفين السيخ المطالبين بالاستقلال، لكن هذا لم يكن كافيا لإرضاء الهند، على ما يبدو.

لا شك أن تصدع العلاقات الهندية الكندية سوف يترك أثرا سلبيا على الاقتصاد الهندي، إذ تعتبر الهند الشريك التجاري العاشر لكندا من حيث الحجم، وهو يعكِّر صفو العلاقات المتطورة بين الهند ومجموعة "العيون"، الخمس والتسع والأربع عشرة. على سبيل المثال، صندوق مجلس التقاعد الكندي (PPC) استثمر ما يقارب 20 مليار دولار في الهند، حسب مجلة الإيكونوميست.

السلوك الهندي مع كندا، إن صدَقَت اتهامات ترودو، سوف يقلق الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا ودولا أخرى تحتضن أقليات سيخية، بعض أفرادها يساندون قضية (خالستان). ويرى خبراء أن جهاز المخابرات الهندي (راو)، الذي أنشئ عام 1968 بمساعدة أمريكية، بهدف جمع المعلومات عن الصين وباكستان وباقي الدول المجاورة، هو المتهم الأول في هذه القضية.

ومع كل ما يقال عن ناراندرا مودي، وحزب (بهارتيا جاناتا) اليميني الذي يتزعمه، من تشدد في تبني قضايا قومية هندية، فإن من الصعب توقع أن تكون القيادة السياسية العليا وراء مثل هذه العمليات، التي تسيء إلى علاقات الهند مع الدول الأخرى وتزعزع موقعها الدولي الصاعد، إضافة إلى أنها تؤجج قضية السيخ في الهند من جديد، في وقت لم يعد هناك من يتبناها سوى قلة قليلة.

ليس متوقعا أن تربك هذه القضية العلاقات الهندية مع الغرب، فهناك قضايا أهم كثيرا منها، خصوصا الوضع المتأزم مع الصين وروسيا، لكنها تشكل إنذارا حول تعامل الحكومة الهندية مع معارضيها، واحتمالات تأثير ذلك على المواطنين السيخ في الدول الغربية، خصوصا أمريكا وبريطانيا وكندا، التي تحتضن جاليات سيخية كبيرة.