تزامن تقرير وكالة الطاقة الدولية قبل أيام بشأن تراجع انتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة مع تأكيد تراجع بريطانيا عن تعهداتها في مكافحة التغيرات المناخية بتأجيل حظر السيارات التي تعمل بالوقود لسنوات.
وسبق ذلك إعطاء الحكومة البريطانية الضوء الأخضر للاستكشاف وانتاج النفط والغاز من مناطق شاسعة مقابل شواطيء اسكتلندا. وسبقتها الحكومة الأميركية بالتصريح بالتنقيب واستخراج النفط في آلاسكا وخليج المكسيك، على عكس لغة الإنشاء السياسي الأميركي في تزعم جهود مكافحة التغيرات المناخية.
ليست بريطانيا وأميركا فقط التي تتراجع عن أهداف الحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري لمواجهة التغيرات المناخية التي بدأت تزيد الكوارث الطبيعية على الأرض وتودي بحياة البشر وتدمر الممتلكات. بل إن كثيرا من الدول الصناعية المتقدمة تفعل ذلك، إما مباشرة أو بشكل مستتر. تلك الدول الغنية هي المسؤولة عن 80 في المئة من الانبعاثات الملوثة للبيئة، وللأسف الشديد يعاني من نتيجة ذلك مئات الملايين في الدول النامية والفقيرة التي تتعرض لكوارث التغير المناخي بشكل أكبر بكثير من الدول المتقدمة.
لدى تلك الدول الكبيرة مبرراتها للتخلي عن تعهداتها، والمتعلقة بالنمو الاقتصادي وتراكم الثروات. وليس لدى الدول المتضررة، والأقل تلويثا للبيئة، سوى أن تتحمل عبء نمو الاقتصادات الكبرى كما هو الحال منذ عقود – وهو الحال الذي أوصل العالم إلى ما هو عليه وتحذر الأمم المتحدة من أنه وضع غير مستدام وينذر بكارثة.
منذ عقود، انطلقة الدعوات لزيادة الاستثمارات في انتاج الطاقة من مصادر مستدامة منعدمة الانبعاثات الكربونية، ووضعت مؤتمرات المناخ المتتالية هدفا معقولا بأن يصبح نصيب الطاقة من المصادر المتجددة النظيفة 17 في المئة من انتاج الطاقة عالميا بحلول عام 2030. حتى الآن لا يتجاوز نصيب الطاقة المتجددة من الطلب العالمي عن الطاقة نسبة 5 في المئة. وفي ظل ما نشهده من سياسات للدول الكبرى لن يكون ممكنا الوصول إلى الهدف المعلن في خضون السنوات القليلة القادمة.
المثير للسخرية أن اغلب الاستثمارات في انتاج الطاقة المتجددة النظيفة المستدامة كانت في الدول الصاعدة والنامية أكثر منها في الدول المتقدمة. ولعل مثال الاستثمارات الإماراتية حول العالم في انتاج الطاقة من الشمس والرياح دليلا قويا على ذلك، هذا بالإضافة للمشروعات السعودية الضخمة لانتاج الهيدروجين الأخضر. وكذلك المشروعات المماثلة في مصر وغيرها.
من البدائل التي كان يفترض التوسع فيها أيضا انتاج الطاقة الكهربائية من محطات تعمل بالمفاعلات النووية، بدلا من محطات تعمل بالفحم أو مشتقات البترول أو الغاز. ويذكر هنا أن الإمارات سبقت أيضا في ذلك بتشغيل أو محطات توليد للطاقة بمفاعلات نووية في منطقتنا، وهناك دول أخرى على الطريق مثل مصر والسعودية أيضا.
أما الدولة تخصص أكبر استثمارات في العالم على الاطلاق لانتاج الطاقة من محطات نووية حاليا فهي الصين، التي دأب الغرب على اتهامها بأنها السبب الأكبر للتلوث البيئي والتغيرات المناخية. إذ بدأت الصين العمل على إنجاز أكثر من عشرين محطة طاقة تعمل بالمفاعلات النووية، وفي غضون سنوات قليلة ستتجاوز الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا في عدد محطات الطاقة النووية لديها.
مع ذلك، لن يكفي كل هذا في تلبية احتياجات نمو الطلب على الطاقة في العالم حسب أغلب التقديرات، بما فيها حتى تقديرات وكالة الطاقة الدولية التي تعمل لصالح الدول الصناعية المتقدمة. وبالتالي ستظل حاجة الاقتصاد العالمي للنفط والغاز قوية، حتى لو استمرت السياسات الحالية في التحول إلى مصادر الطاقة البديلة. وفي ظل تراجع الاستثمارات في قطاع الطاقة التقليدية سيكون ارتفاع أسعار النفط والغاز راجعا بالأساس لمعادلة العرض والطلب وليس لأن المنتجين يؤثرون في الأسعار. وبالطبع نتوقع تصريحات السياسيين المعتادة في أميركا والغرب بالقاء اللوم على أوبك وغيرها من المنتجين.
وبغض النظر عن تبادل التصريحات السياسية، هناك عوامل واقعية لا يمكن تجاهلها خاصة إذا أراد العالم ألا يكون متهاونا في مكافحة التغيرات المناخية وفي الوقت نفسه الحفاظ على نمو وتطور الاقتصاد العالمي.
تلك القضية العامة الأهم في مؤتمر المناخ كوب 28 في دبي الشهر بعد القادم، والتي تتزامن معها لقاءات شركات الطاقة الكبرى بهدف بحث استراتيجياتها المستقبلية في ضوء أهداف مكافحة التغيرات المناخية. إلا أن السياسات الحكومية الحالية في الدول الصناعية الكبرى لا تساعد. ويغطي السياسيون على ذلك بالتصريحات الطنانة التي تكيل الاتهامات لغيرها، من شركات الطاقة إلى الدول المنتجة والمصدرة، بهدف ابعاد الانتباه عن سياساتها المتهاونة.
فما لم تشرك شركات الطاقة الكبرى، والدول التي لها ريادة في انتاج الطاقة من مصادر متجددة مستدامة الى جانب انتاج الطاقة التقليدية، في مناقشات جادة حول سبل الحد من التغيرات المناخية لن يخرج العالم عن تهاونه. ولعل في القمة المناخية هذا العام فرصة لهذا التعاون والتكامل خاصة وأننا بدأنا نشهد بالفعل زيادة حدة أضرار الظواهر الطبيعية في ظل ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض.