عندما أطلق الصينيون مبادرة "الحزام والطريق" قبل عشر سنوات، أرادوا من خلالها التوسع الاقتصادي عالميا، وربط الصين ودول آسيا عموما بأوروبا، وتقديم صورة جديدة للصين، كدولة عظمى قديرة ومستعدة لإنصاف الدول الفقيرة، وإحداث تنمية اقتصادية واسعة في العالم.
لكن تعثر المبادرة وتنامي الشكوك حول قدرة الصين على مواصلة العمل بها، في ضوء تباطؤ الاقتصاد الصيني وتعثر المشاريع التي مولتها المبادرة في العديد من دول العالم، مع عجز الدول المدينة عن سداد القروض الصينية، جاءت مبادرة "الممر الاقتصادي" التي أُعلن عنها في مؤتمر قمة مجموعة العشرين الأخير في دلهي.
لقد تلكأت الدول الغربية طوال عشر سنوات في أن تقدم بديلا حقيقيا للمبادرة الصينية، مع توفر المال والقدرة لديها، لذلك وقَّع أكثر من 150 دولة مع الصين للمساهمة في هذه المبادرة، التي ترمي رسميا، إلى تحسين البنى الأساسية واللوجستية في الدول النامية، كي تتمكن من النهوض اقتصاديا والارتباط بالصين كدولة عظمى ناهضة.
كانت الدول الغربية، والولايات المتحدة تحديدا، تنتظر كيف تتطور هذه المبادرة كي تعرف كيف تتعامل معها أو ترد عليها، ويبدو أن التوقعات الغربية، لسبب أو لآخر، كانت تشير إلى أن المبادرة الصينية سوف تفشل، لكنها، في ضوء غياب البديل، مضت بقوة وأحدثت صخبا عالميا ورفعت آمال العديد من الدول والشعوب الساعية إلى التنمية الاقتصادية، والتي تفتقر إلى التمويل المطلوب، فتلقفتها دول عديدة دون تردد، خصوصا في آسيا وأفريقيا، التي تفتقر إلى الموانئ والطرق المطلوبة للتنمية الاقتصادية.
ومما شجع دول العالم الثالث على التفاعل مع مبادرة "الحزام والطريق"، هو أن الصين لا تفرض على الدول التي تتعامل معها، شروطا سياسية، كأن تطالبها بتحسين حقوق الإنسان أو تغيير أنظمتها السياسية واتباع النظام الديمقراطي، كما تفعل الدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة، التي تربط بين النظم السياسية وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية. العديد من دول العالم الثالث تعتبر طرح هذه المسائل تدخلا في شؤونها الداخلية، ومحاولة لتغيير ثقافاتها الوطنية الأصيلة، أو على الأقل، ترفا فكريا، هي في غنى عنه، حاليا على الأقل، لأنها بحاجة لإطعام شعوبها وتقديم الخدمات الأساسية لها من أجل اللحاق بركب العالم المتقدم.
وفعلا، تقدمت دول عديدة وتلقت قروضا من البنوك الصينية لإنشاء مشاريع بنى أساسية في مجال النقل، مثل سريلانكا، وزامبيا وغيرهما، لكن تعثر الدول المدينة في تسديد ديونها، والشروط الصارمة التي فرضتها البنوك الصينية على الدول المتسلمة للقروض، كأن تشترط امتلاك تلك المشاريع عند العجز عن السداد، قد ساهم في خفوت وهج المبادرة، بل جعل العديد من الدول تنظر إليها بريبة، وهناك من اعتقد بأنها نوع من أنواع الاستعمار الجديد.
كما أن التباطؤ الاقتصادي الصيني الحالي، قد دفع البنوك الصينية إلى تغيير ترتيبات القروض وشروطها، وجعلها أقل توفرا للعديد من الدول الفقيرة، خصوصا غير القادرة على إدارة مشاريع متطورة، أو تلك التي لا تمتلك عناصر إدارية كفؤة، قادرة على إدارة مشاريع حديثة ناجحة.
فشل المشاريع الممولة بقروض صينية جعل الدول الغربية تتريث في تقديم مشروع أفضل للدول النامية، رغم أنها ظلت تبحث عن مشروع بديل، يتفوق على المبادرة الصينية ويحل محلها، لكن المشاريع الغربية تتسم دائما بالبطء بسبب الحاجة للمرور بإجراءات عديدة كالاتفاقات التي تستغرق مباحثات طويلة، والموافقات البرلمانية إضافة إلى دراسات الجدوى الاقتصادية. وما يزيد الأمر تعقيدا هو الشروط السياسية والاقتصادية التي تصاحب تقديم القروض أو المساعدات الغربية. ومع تنامي الصعوبات الاقتصادية الغربية الناتجة عن اندلاع جائحة كورونا، التي فاقمتها الحرب الروسية الأوكرانية، التي رفعت أسعار الطاقة ومعدل التضخم في معظم دول العالم، تقلصت احتمالات تقديم الدول الصناعية بديلا جادا لمبادرة "الحزام والطريق".
وفي مؤتمر قمة الدول الصناعية السبع (جي 7) في العام الماضي، تقرر تخصيص 600 مليار دولار، على شكل قروض ميسرة ومنح، لمساعدة الدول النامية، في مشروع مقابل لمبادرة "الحزام والطريق". ولكن هذا المقترح لم يُنفذ حتى الآن، وإن أريد له النجاح، فيجب أن يكون مصحوبا بالخبرات الغربية اللازمة لتنفيذ المشاريع الحيوية التي تحتاجها تلك الدول. فإن كانت مجموعة السبع جادة في تقديم هذه المساعدات، فإنها عليها أن تسرع في تقديمها، وفي خلاف ذلك، فإن الدول النامية، المضطرة إلى الاقتراض لتمويل مشاريعها التنموية، سوف تتجه إلى الصين، رغم صرامة الشروط واحتمالات عدم الإيفاء بسداد الديون في مواعيدها، الأمر الذي يؤدي إلى امتلاك البنوك الصينية تلك المشاريع، ما ينقض الهدف الأساسي من الإقدام عليها.
قروض ومنح الدول الصناعية السبع تقدم عادة عبر المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، التي لديها آليات جاهزة لاختبار الدول القادرة على الاستفادة من الأموال. فالدول التي ينخر الفساد في مؤسساتها وأنظمتها السياسية، لن تحصل على أي مساعدة أو تسهيل، لأن أحد أهم شروط الإقراض عبر المؤسسات الدولية هو الكفاءة الإدارية واتباع معايير اقتصاد السوق الحر، في خفض الإعانات الحكومية وإزالة التشوهات من الاقتصاد، وهي كثيرة في دول العالم الثالث. فإن كانت الشروط قاسية وغير قابلة للتطبيق، فلن تقبل بها الدول النامية، بل لن تستطيع تطبيقها، وسوف تضطر إلى اللجوء إلى القروض الصينية، التي تجري وفق اتفاقات ثنائية تبدو سهلة ابتداءً، وليس عبر المؤسسات المالية الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين.
إن تعثر مبادرة "الحزام والطريق" للأسباب المذكورة أعلاه، وهي تباطؤ الاقتصاد الصيني الذي يحتاج إلى الأموال حاليا لتحفيز النمو الاقتصادي، ما يقلص الاندفاع لتمويل القروض الخارجية، وخشية العديد من الدول النامية من عدم الاستفادة من المشاريع التي تمولها البنوك الصينية، إن لم تتمكن من سداد الديون في مواعيدها، قد قدم فرصة ثمينة لمجموعة السبع لتقديم مشروعها البديل لمساعدة دول العالم الثالث على إحداث التنمية الاقتصادية التي تنشدها شعوبها، وهذا يتطلب تقديم الخبرة الغربية في إنشاء المشاريع ومراقبة تنفيذها، من أجل ضمان نجاحها، وكذلك التخفيف من شروط القروض وعدم توقع تطبيق الدول النامية المعايير الاقتصادية الغربية المعتادة برمتها، كتقليص الإعانات الحكومية والقضاء على الفساد كليا، فهذه الإجراءات تحتاج إلى وقت طويل وتغيرات اجتماعية وسياسية بنيوية كي يمكن أن تطبق تطبيقا سليما.
مبادرة "الممر الاقتصادي"، التي أعلن عنها الرئيس الأميركي، جو بايدن، ورئيس الوزراء الهندي، نارندرا مودي، وولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في مؤتمر قمة العشرين الأخير في دلهي، هي مبادرة طموحة وعملاقة بكل المقاييس، ويمكن أن تنقل العديد من الدول النامية نقلة اقتصادية نوعية، بحيث تتمكن من الارتباط تجاريا واقتصاديا بأوروبا وعبرها بدول العالم الأخرى، لكنها تحتاج إلى تمويل هائل، إذ يقدِّر الخبراء بأنها تكلف 47 ترليون دولار، وإلى سنين عديدة قد تمتد إلى عقود كي تؤتي أكلها.
وتتضمن المبادرة إنشاء ممرين، الأول بحري، يبدأ من الهند وينتهي بموانئ الخليج العربي، وآخر بري، يمتد من المملكة العربية السعودية ودولة الأمارات العربية المتحدة، ويصل إلى البحر المتوسط مرورا بالأردن وإسرائيل، وصولا إلى أوروبا، ولولا الانهيار المالي وعدم الاستقرار في لبنان، وانفجار المرفأ المدمر عام 2021، لكان لبنان ممرا مناسبا إلى البحر المتوسط.
لا شك أن مبادرة "الممر الاقتصادي"، إن كُتب لها النجاح، سوف تقلل من أهمية المبادرة الصينية المتعثرة أصلا، وتنقل الاهتمام من الصين إلى الهند والشرق الأوسط، وسوف تعزز الارتباط التجاري بين دول آسيا والشرق الأوسط وأوروبا. ورغم أنها توفر طريقا تجاريا عملاقا، يربط آسيا والشرق الأوسط بأوروبا، لكنها لن تكون بديلا لقناة السويس، كما يتوهم البعض، لأن العالم يتطور ويحتاج إلى مزيد من التكامل والتفاعل الاقتصادي، وقناة السويس وحدها لن تكون كافية، بل إن بقاءها ممرا تجاريا وحيدا، رابط بين قارتي آسيا وأوروبا، هو مخاطرة اقتصادية، كان يجب ألا تستمر طويلا، ومن الغريب أن القناة استمرت ممرا وحيدا طوال 154 عاما من عمرها، خصوصا وأنها أغلقت تسع مرات على الأقل، كانت أطولها الفترة الممتدة من عام 1967 حتى عام 1975.
وقد رأينا كيف اضطربت التجارة العالمية عام 2021 عندما تعطلت إحدى السفن في القناة وتسببت في إغلاقها لستة أيام فقط. سوف تبقى قناة السويس ممرا مائيا حيويا رابطا بين آسيا أفريقيا وأوروبا، لكن "الممر الاقتصادي" المقترح سيجعل العالم أكثر أمانا في حال تعرض قناة السويس إلى الإغلاق لأي سبب كان، ويخفف من الاختناقات المرورية عبر القناة، والبطء الذي تسببه لانتقال التجارة العالمية.
لن يكون "الممر الاقتصادي" بالضرورة بديلا لأي مشروع آخر، سواء المبادرة الصينية أو قناة السويس، أو مشاريع الدول الإقليمية الأخرى، بل سيكون مشروعا حيويا جديدا نافعا، ويمكن المشاريع الأخرى أن تستمر إن كانت قادرة على تقديم خدمة مطلوبة. ومثلما حفَّزت مبادرة "الحزام والطريق" مجموعة العشرين على الاتيان بـ "الممر الاقتصادي" فإن الأخير سوف يحفّز دولا أخرى على إنشاء مشاريع منافسة أو مكمِّلة له. ويجب ألا يكون بديلا عن المشروع الذي تقدمت به الدول الصناعية السبع في العام الماضي، بـ 600 مليار دولار، لتمويل مشاريع حيوية في الدول الفقيرة، الذي يمكن أن يهيئ هذه الدول للاستفادة القصوى من "الممر الاقتصادي" عندما يكتمل، ففي غياب التنمية الاقتصادية والبنى الأساسية، لا يمكن الدول النامية أن تعظِّم استفادتها من المشروع، إذ يجب أن تتوفر لديها المنتجات المطلوبة في الدول الأخرى، كي تصدرها إلى العالم عبر "الممر الاقتصادي"، وأن تتوفر لديها الأموال اللازمة لاستيراد ما تحتاجه من الدول الصناعية.
المؤسسات المالية الدولية لديها الخبرة المطلوبة لمساعدة الدول النامية في الاستفادة من الأموال المقدمة لها، ويمكن هذه المؤسسات دراسة ظروف الدول المتقدمة لنيل القروض، واختيار الدول التي تسود فيها ظروف سياسية واقتصادية تمكِّنها من إحداث التنمية المنشودة، لكن الشروط التي ترافق منح القروض، مثل الانفتاح والشفافية وتفعيل القانون ووجود بيئة اقتصادية وقانونية مواتية للاستثمارات الأجنبية، قد تقف حائلا دون استفادة بعض الدول من هذه القروض بسبب عدم توفر البيئة الإدارية والقانونية والسياسية التي تشترط المؤسسات المالية الدولية توفرها.
إنها متلازمة يصعب التغلب عليها، فالكثير من الدول النامية لا تمتلك البيئة الاستثمارية المواتية للنهضة الاقتصادية، لذلك لم تتمكن من النهوض اقتصاديا. هناك أنظمة سياسية في بعض الدول تخشى الانفتاح وتعتبره تهديدا لثقافاتها الوطنية أو أنظمتها السياسية، لكن عالم اليوم يتطلب الانفتاح الثقافي والاقتصادي والتقيد بالقوانين الدولية، والأهم من كل ذلك، أن تسعى الدول بكل ما تستطيع من إمكانيات لمواكبة التطور العالمي المتسارع، فالتقوقع والتراجع، إن بقي في بعض الدول، فإنه سيلحِق أضرارا بالدول الأخرى، حتى المتقدمة منها.