تمر هذه الأيام الذكرى الثانية والعشرون لتفجيرات 11 سبتمبر التي مثلت تحولاً كبيراً، سلبياً وإيجابيا، في علاقة الغرب، الولايات المتحدة الأميركية على الأخص، بالعالم العربي.
كان ذلك صباح يوم الثلاثاء في سبتمبر 2001 حين وقع هجوم بطائرات مدنية بين الساعتين 8:46 و10:03، 77 دقيقة كانت كافية لقتل نحو 3 آلاف شخص ما مثل استثناءً مُرعبا بكل المقاييس الأميركية: صمتٌ وقلق في الشوارع ووجوهٌ متجهمة وعيون كثيرة تحدق بأجهزة التلفزيون غير مصدقة ما تشاهده؛ مبان شاهقة تحترق قبل انهيارها، وأناس يركضون هرباً منها، وآخرون يقفزون إلى المصير المحتوم من طوابق البرجين العليا إلى الأرض تجنباً للموت حرقاً. قبل نهاية نهار ذلك اليوم، حين أصبح واضحاً أن ما حصل هو بفعل فاعل وليس أعطالاً فنية في طائرات، بعكس ما أشارت إليه بعض التقارير الأولى، كان السؤال الغاضب والمهيمن وقتها "من فعل هذا ولماذا؟ " فتحت محاولة الإجابة عن هذا السؤال الصعب والمعقد ردودَ أفعال أميركية مختلفة، حدَ التضارب، تكشف تعقيد هذا المجتمع وطريقة تعاطيه مع الأشياء التي تتحدى معارفه الأولية للأشياء.
في الحقيقة، التَغير الأساسي الذي أحدثته هذه التفجيرات هو أنها أدخلت الشرق الأوسط في حياة الأميركيين العاديين. قبل 11 سبتمبر، كان الشرق الأوسط اسماً غامضاً لا تكاد الأغلبية الساحقة من الأميركيين تعرف عنه شيئاً واضحاً، باستثناء الطبقة الصغيرة من المحللين والمختصين والساسة الذين يتعاطون مع هذه المنطقة من العالم في سياقات مختلفة.
بعد أن اتضح سريعاً، خلال أيام قليلة، أن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن هذه التفجيرات، وأن هذا التنظيم مرتبط بالإسلام على نحو ما، وجذره في الشرق الأوسط، تصاعد غضب هائل، ظَهَر حتى ضد عرب ومسلمين في أميركا تلقوا تهديدات أو كانوا عرضة لاعتداءات. كانت الردود الأولى التي غذاها بعض المحللين خصوصاً المشتغلين منهم على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تميل إلى اختزال الموضوع في المقولة المغلوطة التي سادت في ذلك الوقت: "إنهم يكرهوننا!" استفادت هذه المقولة كثيراً من قلة المعرفة الأميركية بالشرق الأوسط وتعقيداته، ومن بعض مشاهد الابتهاج الصغيرة في العالم العربي في لبنان والعراق ومصر وفلسطين بالتفجيرات، ليُروج لها بعض المحللين ومقدمي البرامج في أميركا على أنها تعبير صادق عن موقف شعبي عام في الشرق الأوسط . كانت ميزة تفسير "إنهم يكرهوننا" تكمن في بساطتها الشديدة عبر تقديمها صورة نمطية لا تطالب المتلقي بالتفكير والتحليل وتفحص الأشياء ملياً، بل كانت تمنحه حكماً جاهزاً براهينه واضحة (الاحتفاء بالتفجيرات، مجيء منفذي التفجيرات من خلفيات إسلامية وشرق أوسطية، شحة الإدانات العربية غير الرسمية للفعل الإرهابي إلخ إلخ).
لكن الجانب الآخر من الفهم الأميركي أخذ يظهر على نحو تدريجي، وهو جانب يتعلق بالتساؤل والرغبة في معرفة تفصيلية ومقنعة، وليس الاستسهال السريع الذي هيمن في أوقات الغضب المبكر ورَوجت له وعَمَّمته جماعات يمينية وأخرى متعاطفة مع إسرائيل وثالثة غير مؤهلة معرفياً للحكم على مثل هذا الأشياء، عبر إبراز إسرائيل بوصفها المَصَد الأول والقديم الذي لم "ننتبه" إليه "للإرهاب" الفلسطيني المدعوم عربياً وإسلامياً.
ناشطو حقوق انسان وصحافيون رصينون وسياسيون سابقون وأساتذة جامعيون، وكثير منهم من المتخصصين في الدراسات الشرق الأوسطية والإسلام، ساهموا في إبراز هذا الجانب الآخر من الفهم ذي الصورة المتشابكة والأقرب للحقيقة: الشرق الأوسط أرض شاسعة فيها دول وثقافات وجماعات متنوعة، وبعضها لديها مظالم حقيقية مرتبطة بسياسات أميركية أو بسلوكيات جائرة يتبعها حلفاء أميركا المحليون في هذه المنطقة المتنوعة، فضلاً عن افتقار منفذي التفجيرات الإرهابية لدعم شعبي واسع عربي أو إسلامي.
في آخر المطاف، وبمرور الزمن، ومع إطاحة أميركا بنظام طالبان في أفغانستان الذي آوى منفذي التفجيرات ورفض تسليمهم، ومن ثم اجتياحها العراق وإنهائها نظام صدام واستبداله بآخر وفشلها في جعل النظام الجديد بديلاً متماسكاً وقادراً، رغم الأثمان الباهظة التي بذلتها دماً وأموالاً وسمعةً سياسية، تطورت المعرفة الأميركية، المتخصصة والعامة، بخصوص الشرق الأوسط بالكثير من المشقة والتجريب، وأيضا التخطيط. يكفي أن دروس تعليم اللغة العربية والإسلام وتاريخه وفرقه في الجامعات، ازدادت كثيراً، فضلاً عن كثرة الدراسات والمقالات عن المنطقة التي اتسعت كثيراً مع تنوعها.
أصبحت كلمات مثل "الحجاب" و"حلال" في إشارة إلى اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية جزءاً من القاموس العادي الأميركي، كما أخذ الإعلام الأميركي يغطي على نحو دوري مناسبات إسلامية كالحج وصيام رمضان، فضلاً عن شعائر الحزن بمقتل الحسين في
عاشوراء في كربلاء ومسيرة الأربعين التي تلتها . عبر هذا كله وغيره، تشكلت تمييزات صحيحة بخصوص الشرق الأوسط بين عموم الجمهور الأميركي بين "إرهابيين" و"مسلمين"، و"متشددين" و"عاديين" (mainstream).
بعد نحو عشر سنوات من تفجيرات 11 سبتمبر، أعلن الرئيس الأميركي حينها، باراك أوباما، في خطاب مسائي في الثاني من مايو/آيار 2011 أن قوة خاصة أميركية، بأمر منه، قتلت أسامة بن لادن؛ زعيم تنظيم القاعدة الذي نفذ هجمات سبتمبر وكان مختبئاً، حين قتله، في باكستان. أكد أوباما في خطابه هذا أن الرجل نال قصاصه العادل على ما فعل.
كان لافتاً أنه بعد انتهاء خطاب أوباما، خرج كثير من الأميركيين في عدة ولايات في مظاهرات احتفاءً بموت الرجل. كثيرون من هؤلاء، خصوصاً في العاصمة واشنطن، كانوا من طلبة الجامعات، أي أنهم كانوا أطفالاً، بحدود 10 سنوات من العمر أو أقل، عندما حصلت التفجيرات الإرهابية. في العادة، لا يتظاهر الأميركيون مُظهرين دعمهم بسبب خطاب ألقاه رئيس أو مسؤول، خصوصاً إذا كان هذا الخطاب يتعلق بحدث جرى في مكان بعيد من أميركا. نادرٌ أيضاً أن يتفاعل الشباب الأميركيون مع حدث "قديم" جرى في طفولتهم ولا يمس حياتهم الحالية أو الماضية على نحو مباشر. يقول كل هذا الكثير عن معنى 11 سبتمبر في أميركا المجتمع، وليس أميركا السياسة..
حمل هذا التظاهر دلالة كاشفة تتجاوز كثيراً السياسة وخلافات الأحزاب وتنافس ساستها في البلد ومعنى الشرق الأوسط أميركياً ونوعية السياسة الخارجية الأميركية إزاءه. كانت خلاصة هذه الدلالة هي أن 11 سبتمبر كان بداية فصل مؤلم في كتاب صعب، وأن الختام "الناجح" لهذا الفصل جاء في تلك الليلة عندما قُتل الذي فتح هذا الفصل وتسبب في كل الألم الذي حصل بعد ذلك اليوم. لم يكن الأمر في ذلك الحين يتعلق بالشرق الأوسط أو الإسلام أو السياسة، وإنما بمفهوم بسيط وواضح يعتبر أساسياً وتعريفياً في الثقافة الاجتماعية واليومية الأميركية، وفي الفهم الأخلاقي للأميركيين العاديين لمعنى العدالة.
جوهر هذا الفهم هو أن لكل جريمة عقابا وأن التحليل والتنظير والأسباب المخففة المحتملة لا تبرر الجريمة، بل تساعد على فهم دوافعها، لكنها لا تلغي ضرورة العقاب.
في إطار هذا الفهم الشعبي، لم تكن الجريمة بحق الولايات المتحدة كدولة ومؤسسات وقوى عظمى، بل بحق 2996 شخصاً بريئاً قُتلوا في صبيحة 11 سبتمبر، معظمهم على الأغلب لم يكن يعرف شيئاً عن الشرق الأوسط عندما لقوا حتفهم ذلك اليوم.
هذه الحقيقة البسيطة والهامة غائبة عموماً في الشرق الأوسط، لأنها تضيع في التحليل السياسي وتقييم سياسات الولايات المتحدة والمقارنات الكثيرة ببشاعات مختلفة على نحو يُغيِّب وجوه الضحايا ويعفي الفاعلين عن مسؤوليتهم الأخلاقية عن أفعالهم. هنا يكمن أحد الفوارق الأساسية بين الثقافة الشعبية الأميركية ونظيرتها الشرق أوسطية.