مؤتمر القمة الثامن عشر لمجموعة العشرين (جي 20)، وهي الدول ذات الاقتصادات الكبرى في العالم، المنعقد في دلهي حاليا، يغيب عنه رئيسا الصين وروسيا، اللتين تمثلان الاقتصاد الثاني والحادي عشر عالميا على التوالي.
غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، كان متوقعا، فهناك مذكرة اعتقال صادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية، لذلك حرص منذ صدور المذكرة في مارس الماضي على عدم حضور المؤتمرات الدولية، كي لا يحرج الدول المضيِّفة لها.
ففي قمة (بريكس) الأخيرة، طلبت الدولة المضيِّفة للقمة، جنوب أفريقيا، من بوتن عدم المجيء، لأنها، وإن كانت غير مستعدة لتنفيذ المذكرة، لا ترغب أن تخالف ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، خصوصا وأنها من الدول الموقعة عليه. وفعلا لم يحضر القمة، علما أن روسيا دولة مؤسسة لمجموعة (بريكس)، إلى جانب الصين والبرازيل والهند.
وعلى الرغم من أن الهند ما كانت لتنفِّذ أمر مذكرة الاعتقال الصادر بحق الرئيس الروسي، أولا لأنها غير موقِّعة على ميثاق المحكمة الجنائية، ما يعني أنها غير ملزَمة بقراراتها، وثانيا لأن الهند غير مستعدة لتعكير صفو علاقاتها المتطورة مع روسيا، التي ازدادت وثاقا، اقتصاديا على الأقل، بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وإن كان هذا التطور غير رسمي، فموقف الهند رسميا يتسق مع مواقف الدول الغربية المنتقدة لروسيا.
لكن الرئيس بوتن قرر عدم حضور قمة (جي 20) تجنبا للإحراج، وكذلك لعدم الرغبة في الالتقاء بقادة الدول الغربية، التي تدين روسيا وتفرض عليها عقوبات قاسية منذ فبراير عام 2022. وبدلا من حضور القمة، عقد مؤتمرا آخر، متزامنا معها، في مدينة (فلاديفوستوك) الروسية لمجموعة (المنتدى الاقتصادي الشرقي) الذي يضم روسيا وكوريا الشمالية وإيران وأفغانستان، إضافة إلى الهند ومنظمة آسيان.
ويبدو أن هذا المنتدى غير متخصص بشأن معين، فأهدافه غير محددة بل تشمل كل شيء تقريبا، فهو ابتداءً لا يقتصر على المسؤولين، بل يجمع بين رجال الأعمال والمسؤولين "ويناقش مختلف القضايا، الاقتصادية منها والسياسية بل وحتى الثقافية!
وقد أسس المنتدى، الرئيس بوتن عام 2015، "بهدف تحسين العلاقات بين الدول الآسيوية وروسيا". وحسب موقع (يو أن أكادمي) التعليمي الهندي، فإن أحد أهداف المنتدى هو الموازنة بين الهند والصين، وتحسين العلاقات معها، ما يعني أن العلاقة الهندية الصينية قلقة ومحاطة بالشكوك المتبادلة، وكل ما قيل عن (تحالف) هندي صيني هو محض أمنية لا تبدو أنها قابلة للتحقيق في الأمد المنظور.
لكن أسباب غياب الرئيس الصيني، شي جينبينغ، عن قمة (جي 20) الثامنة عشرة، غير معروفة، ما دعا محللين كثر إلى الانغماس في تحليلها. هناك من يقول إن الرئيسي الصيني أراد أن يضعف موقف مضيِّف القمة، رئيس الوزراء الهندي، ناراندرا مودي، حسب ما نشرته صحيفة (بوليتكو) الامريكية، وذلك بسبب العلاقات الاقتصادية والعسكرية المتطورة بين الهند والولايات المتحدة، وهذا يزعج الصين، التي تسعى لأن تكون الهند حليفة لها، باعتبارها دولة آسيوية كبرى مجاورة.
إضافة إلى ذلك، هناك مشاكل عميقة بين الهند والصين، تفاقمت إلى حد الاصطدام العسكري قبل سنوات. وتجري الهند حاليا مناورات عسكرية عند حدودها الشمالية الشرقية مع الصين. كما أن النظام السياسي الهندي يختلف كليا عن النظام السياسي الصيني، الذي يحكمه حزب واحد يقوده رجل واحد، هو زعيم الحزب ورئيس الدولة، بينما الهند دولة ديمقراطية وفيها أحزاب عديدة، تتغير حكوماتها في انتخابات عامة شفافة، وهي دولة أقرب إلى المعسكر الغربي منها إلى الصين، رغم التشدد القومي الذي يتسم به الحزب الحاكم حاليا، (BJP) الذي وصل به الأمر إلى حد استخدام اسم الهند القديم، (بهارات) بدلا من اسمها الرسمي المعروف عالميا.
هناك من يرى أن سبب غياب الرئيس الصيني عن القمة هو الاقتصاد الصيني المتداعي، وأن الرئيس شي لا يرغب في مغادرة البلاد وسط أزمة اقتصادية خانقة قد يتزايد بسببها السخط الشعبي، حسبما ذكرت صحيفة (بوليتكو).
ومن الجدير بالذكر أن تجمُّع (جي 20) اقتصادي بالدرجة الأولى، وقد تطور عن لقاء دوري لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية، إلى مؤتمر قمة يحضره زعماء الدول الكبرى التسعة عشر، زائدا الاتحاد الأوروبي. المواضيع التي ناقشها المؤتمر عديدة، وكل مجموعة دول لديها اهتمامات معينة.
البيان الختامي للقمة، الذي اعتبره مراقبون إنجازا، لمجرد صدوره بالإجماع وفي اليوم الأول، بسبب الخلافات العميقة بين الدول المشاركة، تجنَّب إدانة روسيا بالاسم، لكنه أشار إلى ضرورة احترام سيادة الدول الأخرى وعدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة. أوكرانيا، غير المدعوة للمؤتمر هذا العام، منزعجة من غموض البيان وعدم إدانة روسيا صراحة، لكن ألمانيا وبريطانيا أشادتا به وقالتا إنه شدَّد على احترام سيادة الدول الأخرى، واحترام القوانين والمواثيق الدولية. ويعتبر البيان أخف لهجة عن بيان قمة (جي 20) التي انعقدت في بالي العام الماضي، الذي كان صريحا بإدانة روسيا.
ويرى محللون أن غياب الإدانة الصريحة لروسيا، كان ضروريا لإقناعها بالتوقيع على البيان، وهو بحد ذاته مؤشر، حسب محللين، على وجود خطط للبحث عن حل سلمي لهذه الأزمة التي تعصف بالعالم منذ 19 شهرا، والتي تعتبر الأخطر في العصر الحديث، وتهدد بخلق مشاكل خطيرة، اقتصادية وسياسية، إن بقيت متأججة.
الدول النامية حضرت بقوة هذه المرة، إذ شاركت وفود من 43 دولة، حسب بيان منشور لرئيس الوزراء الهندي، كما انضم الاتحاد الافريقي لمجموعة العشرين كعضو دائم، وتبوأ أمينه العام، رئيس دولة جزر القمر، غزالي عثماني، مقعده إلى جانب زعماء الدول العشرين.
وتسعى الهند لقيادة الدول النامية وتمثيل مطالبها، وهذا الأمر ليس جديدا، فقد كانت سباقة إلى تأسيس مجموعة عدم الانحياز إبان الحرب الباردة، وعندما اختفت هذه المنظمة بعد اختفاء مسببات قيامها، لجأت الهند إلى المنابر الدولية الأخرى لطرح قضايا العالم الثالث، متنافسة مع الصين في هذا الأمر. وفي كل الأحوال فإن مشاركة الاتحاد الأفريقي في منتدى (جي 20) أمر في غاية الأهمية، لأنه يوفر للدول المنضوية تحت لوائه منبرا دوليا مؤثرا لطرح قضاياها المهمة، وهو إنجاز لرئيس الوزراء الهندي، نارندرا مودي.
اهتمامات الدول النامية لا شك مختلفة، فهي قلقة من ارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وهي تعاني أيضا من ارتفاع أسعار الفائدة، فكثير منها لديه قروض، إما من المؤسسات الدولية أو من الدول الغنية، وقد ارتفعت كلفة خدمة هذه الديون كثيرا خلال العامين الماضيين بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، إذ تجاوزت، حسب بيان البنك الدولي، 60 مليار دولار سنويا، وهو مبلغ باهظ، وأخطر ما فيه أنه يتزايد بمرور الزمن.
وتقدر مصادر عديدة، بينها بي بي سي، إن ثلثي خدمة الديون على الدول الفقيرة يعود للصين، التي تتعرض لانتقادات غربية حادة حول شروط القروض التي تقدمها للدول المحتاجة، هذه الشروط تخدم الدائن بالدرجة الأولى، وتكبل المدين بأعباء طويلة الأمد، وهي تجري حسب مبدأ "أقرض لتملك" أو (loan to own).
كما تطالب الدول النامية بأن تتحمل الدول الصناعية تكاليف معالجة التغير المناخي لأنها الملوِّث الأول للبيئة، بسبب استهلاكها الكبير للطاقة، وارتكاز اقتصاداتها منذ زمن بعيد على الصناعة، واعتمادها لفترة طويلة على الفحم، وهو الأكثر تلويثا للبيئة، بينما تحاول الدول الصناعية أن توزع الكلفة على جميع الدول.
قضايا المناخ وأسعار الطاقة وأسعار المواد الغذائية تصدرت المناقشات، بينما اتخذت القضايا الأخرى مثل الأمن والدفاع والتسلح موقعا خلفيا. ورغم أن جميع الدول تتفق نظريا على العديد من القضايا، لكن المشكلة في التطبيق اللاحق للمقررات. هناك اتفاق على مضاعفة الجهود لبلوغ الأهداف المتفق عليها في مؤتمرات المناخ، للحد من الانبعاثات الغازية، ولكن الدول النامية حصلت على مرونة التوقيت في بلوغ الأهداف، إذ سمح المؤتمر للدول الفقيرة أن تعطي أولوية للتنمية المستدامة ومكافحة الفقر وتحقيق المساواة "حسب الظروف الوطنية" للدول المختلفة.
ويرى محللون كثر أن القمة نجحت أكثر من المتوقع، إذ رأى كثيرون أن غياب الرئيسين الصيني والروسي سيفشلها. ويُعزى هذا النجاح إلى رئيس الوزراء الهندي، الذي كرس كل جهوده لإنجاحها من أجل إبراز دول الهند الفاعل في الساحة الدولية. وكانت الهند قد عقدت مؤتمرا العام الماضي تحت شعار (صوت الجنوب الكوني) حضره ممثلون لـ 125 دولة، بهدف الاستماع إلى آراء الدول النامية كي تطرحها الهند في قمة (جي 20).
ويرى محللون أن سعي مودي الحثيث على الساحة الدولية تقف وراءه دوافع شخصية وحزبية، خصوصا وأن الهند (أو بهارات) مقبلة على انتخابات عامة في العام المقبل. وقد أظهر استطلاع للرأي، أن 68% من الهنود يعتقدون بأن نفوذ بلدهم آخذ في التنامي على المستوى الدولي، وفقما ذكرته مجلة إيكونوميست.
المملكة العربية السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي لديها عضوية دائمة في (جي 20)، باعتبارها من الدول ذات الاقتصادات الكبيرة عالميا، إذ تجاوز الناتج المحلي الإجمالي السعودي ترليون ومئة مليار دولار في عام 2022. لكن دولا عربية أخرى شاركت في القمة، ممثلة بزعمائها. دولة الأمارات العربية المتحدة، مثلا، وهي ليست عضوا دائما، تُدعى إلى القمة منذ أربع سنوات، وقد مثَّلها في هذه القمة رئيس الدولة، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. وقد شاركت مصر أيضا، ممثلة بالرئيس عبد الفتاح السيسي، وعمان، التي مثّلها نائب رئيس الوزراء، أسعد بن طارق.
لا شك أن القمة نجحت في تحقيق إنجازات عديدة منها انضمام الاتحاد الافريقي إلى (جي 20)، والاستماع إلى مطالب الدول النامية بتخفيف الديون، والاتفاق على أهداف معالجة التغير المناخي، لكن المشكلة دائما تكمن في التطبيق اللاح للمقررات.