(إلى العزيز عمر عبد العزيز)

(٤)

 يتحوّل التّنميط في حقّ الصحراء ابتذالاً، بسبب غياب الموقف النقدي من ظاهرة كالصحراء، كعتبة لتقييم القيمة المغتربة في علاقتنا بالصحراء، وهو ما لا يتحقق بدون الإيمان بوجوب تقويم الموقف من وطنٍ نجهله، برغم أننا نستوطنه، فلا نستحي أن نعتنق في حقّه الموقف العدميّ بدل الموقف النقدي.

فبفحص النمط، في بُعد المفهوم، نكتشف طبيعته كعملية جراحية، تحقق دمج طينَتين في طينة واحدة، طبيعتين في طبيعة موحّدة، بل، إذا راقنا أن نرتاد منازل أبعد منالاً، قلنا نطفة من نطفتين، لنحصل على مزيج. ورسالة هذا المزج هو ضغط القطبين لإنجاز موجز. موجز يلعب دور الترجمان لكليهما، ولهذا السبب هو نموذج. فنحن إذا كنّا نتباهى بخصوصيّتنا كأفراد، ويروقنا أن نتغنّى بهذه الخصوصية، التي تستطيع أن تميّزنا عن الأغيار، وننسى أننا مسكونون، بالفطرة، بطينة هؤلاء الأغيار بسلطة كوننا أناس مثلهم، هم أيضاً لا يستطيعون أن يتنصّلوا من جيناتنا التي تسكنهم، لتغدو تلك النواة البشرية هي الشفرة التي تجمعنا، بل تمزجنا، أو تدمجنا، مهما حاولنا أن نكابر، فننفيها من واقعنا. هذه البصمة السرية هو ما ينفخ فيه أولئك الذين أنعمت عليهم الأقدار بالإلهام، ليعبّروا بها، في الأعمال الأدبية الخالدة، فينصّبوها في تجربتنا الوجودية سلطاناً لا نملك إلّا أن نعترف به، لأننا نتعرّف فيه على أنفسنا، في أغيارٍ نحسبهم دوماً أغراباً، لترتفع، في هذا الكشف، راية ما اصطلحنا على تسميته «الطبيعة الإنسانية»، لأن النطفة النائمة في الجينات هي الجنيّة، التي لا تُهزم، ولابدّ لها أن تدلي بشهادتها، برغم أننا قد نحدسها، ولكن هيهات أن نعبّرها، وعظماء السرد الملحمي وحدهم أنبياؤها.

 (٥)

 التنميط مغامرة خطرة، تسلب البكارة في النطفة، تختلس البراءة في الشفرة، فتغترب الروح في المشهد، ليضيع المزيج في التقليد، لا بوصفه وصيّة تنتقل من هذا الجيل، ليرثها ذاك الجيل، ولكن بوصفها تلقين محفوف بالتكرار، ينازع ليستقيم في مُسَلّمة. إنه جنسٌ من سحب المفهوم من ثروته، من حُجّته، باعتمادها، في المعجم الوجودي، كأطلال.

فما موقف الحرية في حكم المفهوم، القاضي بوجود صفقة قران، أو عهد مبرم بالطبيعة، بين الصحراء كاسم، وبين الحرية كرهان دلالة؟

المشكلة أن التنميط ليس معصوماً من بعبع الأيديولوجيا، وحيثما حلّ هذا الشبح فهناك يهيمن الزّور. والمسلّمة دوماً صنيعٌ أيديولوجي. ولمّا صارت الصحراء أطلالاً، فلا ضمان إلّا تسود العقلية المبتذلة التي تسوّق الصحراء كفراغ، مادامت طلولاً، لأن الطلول خراب، آثار، نستطيع أن نسفح الدموع في واقعها، ولكننا لا نستطيع أن نعترف بها كمقام، لأن الأطلال حقل مسكون بالأرواح الشريرة دوماً، في ميثولوجيا أمم العالم القديم، فلا نملك إلّا أن نهجرها. من هنا نشأ اليقين القائل بأن الصحراء مادامت فراغاً، أرضاً بوراً، ولا وجود في فضائها لوصيّ أو وليّ أو وريث، فإنها مشاع. ما معنى مشاع؟ مشاع يعني أن كل فعل في حقّها عملٌ مباح! هذا اليقين هو ما استصدر في حقّ الصحراء الفرمان القاضي بحقّ اقتراف أبشع الآثام في حقّها، وذلك بحريّة استغلالها كساحة لإجراء التجارب النووية، أو جعلها مكبّاً للنفايات الكيماوية، وتقديمها قرباناً يستجير به الإرهاب وتجّار الممنوعات من كل نوع، سيّما في واقع حداثي يتباهى باغتراب القيم، ويفوّض السلطة السياسية البلهاء لتكون حَكَماً، في عالمٍ كل شيء فيه مباح، حتّى تسفيه الطبيعة نفسها، بتذكير ما سنّته في ناموسها مؤنّثاً، وتأنيث ما سنّته في ناموسها مذكّراً!

نحن ننزل ساحة الصحراء، لا لكي نبكي على أطلال الصحراء، ولكن لكي نقرأ علم الصحراء، في سجلٍّ إسمه الصحراء، التي لم تكن لتتحوّل في يقين الأجيال حرماً لو لم تكن الوطن الذي أنجب من لدنه اللاهوت، والميثولوجيا، والفنون، والحكمة، والنبوّة.

أَلَا يكفي أنه مسقط رأس التكوين؟

كلّا! هويّة مسقط رأس التكوين لم تكن لتكفي، في عالمٍ مسعور، مدفوع بروح النفع، التي أماتت في إنسان التقنية ضمير القيمة، ليستسلم لإغواء الغنيمة، وما الروح العدمية، التي أباحت التجديف في حقّ الصحراء بوصفها فراغاً، سوى نتيجة لهذه الحمّى، التي نصّبت أبناء جيلنا شهوداً على فصول المكيدة، التي حيكت ضدّ الصحراء، بدايةً بإبادة مخلوقات برية نادرة، نسمّيها أنعاماً، في حين لقّنتنا كتبنا المقدّسة أنها أممٌ أمثالنا، كالغزلان والودّان، وسواها، فلم نكتفِ، ولكن ضمأنا إلى الإغتنام أبَى إلّا أن يدفعنا لإبادة النباتات في حرم هذه القارة، في حملة محمومة تزامنت مع هجمة عالمية شاملة لاغتصاب تلك الثروات الباطنية، التي لم تهبها لنا الصحراء طوعاً، بشهوة استنزاف جشعه لم تتوقّف منذ اكتشف هذا الإنسان كم هي الصحراء مستودع كنوز.

يحدث هذا على حساب كنوز الصحراء الروحية، المعادية بالسليقة لطينة الكنوز النفعية، التي يستهدفها إنسان الحداثة، لأن الحرية، التي تتشدّق بها بدعة التنميط إنّما تشترط اعتناق الزهد في حطام الدنيا ديناً، كأوّل حرف في أبجدية الحرية، في ماهيّتها كحقيقة، لا في ماهيّتها كحُجّة لمعاملتها كفراغ، أقبل على الصحراء، حاملاً في أعطافه البلاء.

فالشغف بالتنميط هو، في نهاية المطاف، احترافٌ للإستنساخ. حبكٌ لنسيج النسخ. والإستنساخ منزلة في بلوغ مستوى الإستمساخ بصفته تجديفاً فاضحاً في حقّ المراتب التّسع، التي تحتجب في عمق الأعشار التسعة، في نصب الجبل الجليدي العائم، القرين، في تجربة اغترابه، للصحراء، مع وجوب مراعاة فارق حاسم، ذي علاقة حميمية بميتافيزيقا الصحراء، كواقع بعمق روحي، إذا ما قورن بواقع الغمر كواقع حرفيّ. والرقم التاسع، في حساب الأعداد، مقدّس لأنه خاتمة الأعداد، وكل ما تلا التسعة فهو انبثاق من هذا التاسوع، الذي يستطيع أن يمضي في التعداد إلى ما لا نهاية. لهذا السبب اعتنقت أجيال العالم القديم دين التاسوع، فنصّبه قدماء المصريين محفلاً للآلهة، كما اقتفى اليونان أثرهم، فجعلوه وَسماً في مجمع ربّات الفنون، في حين يصرّ هواة التنميط على تجاهل حقيقته، عند تناول الذخيرة المحتجبة، المستودعة في عمق الصحراء، لأن ما يهمّ هؤلاء ليس البُعد الغيبيّ، الأبعد منالاً، في تجربة الصحراء؛ ولكن البعد الحرفيّ، في موضوع الصحراء، لتتحوّل النزعة التنميطية في حقّه تسفيهاً للقيمة المخفيّة في تاسوع خفاياه، وبالتالي تسفيهاً للحقيقة، التي تسكن مبدأ التاسوع!

 هامش للتأمّل:

 ما بلبلنا في الصحراء عادةً هو هذا العريّ الموجع في حرف الصحراء، ولكنه، بصفته كشفاً، هو ما يحرّضنا على اكتشاف ما وراء الحجاب:

«ليس الحجاب بُمقصٍ عنك لي أملاً

     إن السماء تُرجَّى حين تحتجبُ»  (أبو تمّام).

وظيفة الصحراء أيضاً استهتارٌ بما تبدَّى، وتوق محمومٌ لاستطلاع ما استتر. لهذا السبب كان الحجاب أعظم حيلة لاستفزاز أنبل خصلة في طبيعة الإنسان وهي الفضول! الفضول الذي كان له الفضل في صياغة كل صنائع الإنسان، بل ولاستجلاء حقيقة هذا العالم أيضاً، وما الصحراء، في هذه الحملة، سوى معلّم أوّل.

وعلّ الهوَس بارتداء اللثام، لدى أهل الصحراء الكبرى، ترجمة لإيحاء مجازيّ حكيم، للتعبير الشعري، عن حقيقة العمق الثريّ، في وطنهم البريّ السخيّ.