من أَوْكد دروس الفكر السّياسيّ الحديث، والنّظام السّياسيّ الحديث، ما بين الحريّة والسّياسة من تَلازُمٍ في الماهية يمتنع معه وجودُ أحدهما من دون الثّاني.
نحن لا ننفي، طبعاً، إمكانَ قيام نظامٍ من السّياسة في مكانٍ مّا من العالم خِلْوٍ من الحريّة؛ نظام استبداديّ أو كُلاّنيّ أو ديكتاتوريّ أو أوتوقراطيّ - وما أكثرها في العالم المعاصر- ولكن يصعب أن يُسمَّى ذلك النّظام، في هذه الحال، نظاماً سياسيّاً أو قُل نظاماً يدير السّياسة؛ لأنّ هذه لا تكون من جانبٍ واحد، بل لا تكون إلاّ بمشاركة فَعَلَةٍ آخرين يحقّقون مصالحهم ووجودَهم الاجتماعيّ من طريق السّياسة؛ والمشاركة هذه تمتنع عن الكينونة من دون مقدارٍ مّا من الحريّة تصير معه السّياسةُ - مثلما هي حالُها فعلاً - شأناً عامّاً.
لا نحاكي بهذه الملاحظة موقف حنّة أرندت، عالمة السّياسة الألمانيّة- الأميركيّة، الذّاهب إلى أنّ العنف فعْلٌ قبلُ سياسيّ، أو ينتمي إلى ما قبل السّياسة، لأنّ ما قبل السّياسة ليس بشيءٍ آخر غير ما قبل المجتمع المنظّم، ناهيك بأنّ تاريخ السّياسة (تاريخ الدّول وأنظمة السّلطة) لم يَخْلُ يوماً من التّعبير عن أشكالٍ من العنف في العلاقات العامّة متفاوتة الحُجُوم هنا وهناك. ما نبغي، بالأحْرى، التّشديدَ عليه بتلك الملاحظة هو أنّ السّياسة تكتسب معناها على التّحقيق - بوصفها وسيلة لتدبير المصالح وتنظيم الشّؤون العامّة - كلّما تلازمت مع الحريّة وابْتَنَتْ عليها أساساتها.
الحريّة، إذن، ظاهرة سياسيّة لأنّها، في المقام الأوّل، منتوجٌ سياسيّ وليست معطًى قبْليّاً سابقاً في الوجود لقيام الدّولة، لذلك هي تقترن بالسّياسة وتدور معها صعوداً وهبوطاً، طفرةً ونكسةً، وجوداً وعدماً. لذلك فإنّ فضاء الحريّة وميدانها التّداوليّ هو المجال العامّ: مجال علاقات السّياسة وعلاقات التّبادل الاجتماعيّ، أي الدّولة ومؤسّساتها المختلفة. إنّه المجال الذي تحيطُه الدّولة بالرّعاية وبما يكفيه من الضّمانات القانونيّة، وليس ذلك لأنّ الحريّة من مقدّسات السّياسة، في عالمنا المعاصر، ومن أهدافها العليا فقط، بل لأنّ الحريّة من مقوّمات السّياسة والدّولة ومن موارد قوّتها وصناعةِ جمهورها: أكان الجمهور العامّ (= المواطنون) أو النّخب التي هي قَوام السّياسة والسّلطة والشّؤون العامّة.
قد يُسْتَدْرَك على قولنا هذا بالسّؤال التّالي: وأين المجال الخاصّ الذي تتجلّى فيه تلك الحريّة وتَنْعَاشُ بوصفها حقّاً خاصّاً بكلّ فرد بما هو فردٌ؛ أليس السّكوت عن المجال الخاصّ تغييباً له من المعادلة، وحطّاً من مكانة الحريّة الفرديّة في المجتمع؟ نجيب بأنّه ما مجالٍ خاصّ، على الحقيقة، يفرض نفسَه مقابِلاً للمجال العامّ. لذلك، قد يجوز الحديث عن حريّةِ الفرد من باب المجاز لا من باب التّعيين الدّقيق لنسبتها الاجتماعيّة؛ ذلك أنّه ما من حريّةٍ للفرد، على الحقيقة، إلاّ بما هي حقٌّ عامّ: للمجتمع/للمواطنين كافّة. بعبارة أخرى: ليست الحريّات حقوقاً لأفرادٍ متعيِّنين إلاّ من حيث هي من حقوق المواطَنة التي تُقِرّها القوانين. الأفراد هؤلاء، إذن، لا يُنْظَر إليهم في فرديّاتهم المنفصلة المستقلّة أو المُبَعْثَرة في فضاءاتٍ مغلَقة، بل يُنْظَر إليهم من حيث هم داخلون في شبكة من العلاقات العامّة؛ من حيث هم أعضاء في الاجتماع السّياسيّ: من حيث هُم مواطنون يؤدّون واجباتٍ للدّولة والمجتمع مقابل ما يتمتّعون به من حقوق، والحريّةُ واحدٌ من أظهر تلك الحقوق.
الحريّة، بهذا المعنى، هي المجال العامّ: مجال علاقات التّبادل الاجتماعيّ السّياسيّ داخل أيّ مجتمع، لذلك هي سياسيّة بالضّرورة أو مقترنة بالسّياسة. وهكذا ليست الحريّات الفرديّة تعبيراً عن حالات معيوشة، من قبل المتمتّعين بها، بعيداً عن المجتمع والدّولة وفي عوالم خاصّة مغلَقة، كما يوحي ظاهرُ الأمور، وإنّما هي تعبيرٌ عن انتماء هؤلاء المتمتّعين بها من الأفراد إلى المجال العامّ، وتعبيرٌ عمّا يعود عليهم من ذلك الانتماء من جزيل الثّمرات والحقوق ومنها الحريّات، حتّى مع وجودهم على نحوٍ يَبدون فيه منفصلين عن بعضهم، غارقين في فرديّاتهم.
إذا كانت الحريّة الفرديّة محترمة، أو حتّى مقدَّسة، في الدُّول الحديثة بحيث لا حقّ لأحدٍ أو سلطةٍ في التّدخُّل فيها وفي كلّ ما هو في حُكْمِ الخاصِّ والحميميّ عند الأفراد، فما ذلك بسبب أنّ هذه الحريّة الخاصّة بالفرد تفرض نفسَها على المجتمع والدّولة والقانون، بل لأنّ مَأْتى حُرمتها من المجتمع والدّولة والقانون.