شهد لبنان خلال الأسبوع الماضي خطابين لكلٍ من رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع.
ومضامين الخطابين أظهرتا أن الألغام التي تتحكم في جوانب كثيرة من مفارق الواقع المائل إلى الانفجار لا تزال بحاجة إلى كاسحة ليست متوفرة حتى اليوم.
ففي حين عمد بري إلى إتهام الآخر بالخيانة العظمى، وانتمائه إلى "فريق الوشاة الذي يسير خطوط ترانزيت جوية عابرة للقارات باتجاه عواصم القرار في أوروبا وأميركا ويشكل مجموعات ضغط في أكثر من عاصمة تحريضا وتشويها"، داعيا إياه إلى حوارٍ يرى أنه يجب أن يسفر عن توافق ينتج رئيسا للجمهورية، رد جعجع بالقول: "يدعونك للحوار ليخنقوك ويقتلوك ويجبروك أن تفعل ما يريدون"، مشددا بأن "لا مشكلة لدى (القوات اللبنانية) مع (حزب الله) أو الأحزاب الممانعة الأخرى كأحزاب سياسية، باعتبار أن المشكلة الأولى ترتبط بمشروعهم للبنان الذي يتمثل اليوم من خلال الواقع الذي نعيشه، إلا أن المشكلة الكبرى تبقى مع طريقة فرض مشروعهم بالقوة والإكراه والغصب والاغتيالات وكل الوسائل الملتوية التي لا يتصورها عقل إنسان".
بالتالي، فقد أكد الخطابان استحالة العثور على قواسم مشتركة يؤمل منها مد جسور للتلاقي بين القوى السياسية المتنافرة إلى حد التصادم، لاسيما في ظل استشراس محور الممانعة لفرض مذهبه الفكري والثقافي على كل اللبنانيين، إضافة إلى فرضه مذهبه السياسي، وصولا إلى إبادة شبه كاملة لأسس الدولة.
وما خفي من بواطن الصراع يبقى الأعظم، إذ لم تعد المواجهة بين المتنافرين مقتصرة على المشاريع السياسية أو حتى تقاسم السلطة والتحاصص والأبعاد المتعلقة بالمناصب والواقع، بدءا من رئاسة الجمهورية وليس انتهاءً بتعيين موظفين درجة خامسة من دون مراعاة التوزيع الطائفي، وانما بمفهوم الوطن ككلٍ وحيثية وجوده وجدواها.
وبينما تقتصر الجهود الدولية تجاه لبنان على مساعٍ تتعلق بالإصلاح والشفافية ومحاربة الفساد والالتزام بالقرارات الدولية وبعدم الإضرار بالعلاقات مع الدول العربية، تتعمق الهوة بين خطابين ومشروعين يتجاذبان مصير لبنان وسط عواصف إقليمية وتطورات مفصلية تجعل استخدام رأس الممانعة الإيراني للورقة اللبنانية أكثر حدة.
ولبنان الغارق حتى قمة جباله بهذه التعقيدات يتأرجح بين هذه الأوضاع الإقليمية المضطربة التي تشي بأن التسويات المكتملة ما تزال بعيدة المنال. فهذه الأوضاع هي الأساس، والباقي إضاعة للوقت، وتحديدا من خلال دعوة بري إلى الحوار في خطابه الأخير عن الاستحقاق الرئاسي بقوله: "تعالوا في شهر أيلول لحوار في المجلس النيابي لرؤساء وممثلي الكتل النيابية لمدة حدّها الأقصى سبعة أيام وبعدها نذهب لجلسات مفتوحة ومتتالية، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ونحتفل بانتخاب رئيس للجمهورية"، فيرد جعجع قائلاً: "لا يستفيقون على الحوار إلا في الانتخابات الرئاسية. انتخبوا رئيس المجلس بـ 65 صوتاً ومشي الحال. فلماذا لا يمشي الحال في انتخاب رئيس الجمهورية"؟
وبين الخطابين، وفي انتظار نضوج الظروف لفرض إرادة رأس الممانعة، تكتفي الأذرع باتهام الآخرين بما ترتكبه، وتواصل تعطيل أعمال المؤسسات الدستورية وشل أدوارها.
أكثر من ذلك، تعمل هذه الأذرع على افتعال قضايا وأزمات لا وجود لها لتصرف النظر عن مساعيها الحقيقية الرامية إلى تغيير صيغة لبنان الفكري والثقافية، وكأنها بذلك تستفز من لا يلاقيها في التشدد والانغلاق الساعية إليهما، ليطالب بالانفصال من خلال فيدرالية أو ما إلى ذلك، ومن ثم تدينه لرفضه ما تريد فرضه.
وبالطبع لا تردع هذه الأذرع تداعيات الصراع الدائر بين خطابين، ما دام نصب أعينها انها ستتمكن في نهاية المطاف من فرض خطابها.