الوعيُ الذّاتيّ ليس وعياً متولّداً مـن ذاتٍ منغلقة على نفسها، وإنّما هو - بالأحرى - وعيٌ بالذّات لا يتأتّى إلاّ بوجود مقابلٍ للذّات، أو للأنا، هو الآخَر؛ حيث وجودُه مِنْ أَظْهر محدِّدات الأنا أو من المقوّمات الأساس لتمييزها نفسَها كأنـاً مستقـلّة ذات كيانيّة خاصّة.
إنّ الأنا تَعي ذاتَها كلّما وعَتْ آخَـرَها لأنّها ليست كيانيّـةً بسيطة بل مركّـبة، أي حصيلةُ علاقةٍ بغيرها (آخَر) هي عينُها العلاقة التي تتحدّد بها بما هي أناً متمايزة. وهو وعـيٌ يتولّد لديها سواءٌ عثرت في علاقتها بآخَرها عمّا تنماز به عنه أو عثرت عمّا تشترك معه فيه.
قد يأخذ الوعي الذّاتيّ صورةَ وعيٍ للاختلاف في الماهية بين الأنا والآخَر؛ والغالب على هذا الضّرب من الوعي أنّه يتولّـد من مقارناتٍ لا تَنِي الذّاتُ تَعْـقدها مع آخَرِها. وهي إذْ تتأدّى بها المقارنة إلى إدراك مَواطن الاختلاف في الآخَـر، تنتهي إلى إدراك ما فيها من اختلافٍ ماهـويّ عنه كان يمتنع عليها إدراكُه، حُكْماً، لولا ارتفاعُ معدّلِ حسِّ المقارنة في وعيها، ولولا انصرافها - بتلك المقارنة - إلى ملاحظة ما بين الذّات والآخَر من فواصلَ وتَمايُـزات في الماهية لا تتبيّن بالتِّـلقاء، بل بالاستقراء.
ومع أنّه ما من وعيٍ يَـعْرَى من هذا الميل نحو تمييز الأنا من آخَرها (= كلّما كان موضوعُهُ الآخَـر وكلّما سَلَك في المعرفة مَسْلك المقارنة والمضاهاة)، ومن الانتباهِ إلى علاقة الاختلاف بما هي قرينةٌ على المَائِـزِ بين الأنا والآخَـر، إلاّ أنّ بعضَ الوعي المفتون بلعبة التّمايُـز والمُفاصَلة ينغمس في لعبة التّشديد على هاتيك الفواصل والفوارق إلى الحدّ الذي ليس بعده غير القطيعة! هكذا يَتَأَدَّاهُ ذلك المسْلك من لحظة الوعي الذّاتيّ - وهي لحظةٌ معرفيّة موضوعيّة - إلى لحظة التّبجيل الذّاتيّ ومنها إلى النّرجسيّة؛ وهي لحظةٌ مَرَضيّة بامتياز!
حين يقع وعْيُ تلك الفوارق والانغماسُ في توسُّلها أداةَ تعيين الأنا، يقع - عندها - التّنفيلُ في الإبانةِ عن جذور الاختلاف والتّأكيد على جوهريّـته، وذلك من طريق التّوسُّع في بيان دائميّةِ تلك الفوارق في التّاريخ، فيُلْجَأ إلى الماضي مثلاً - بعيدِه والقريب - للاحتجاج لذلك المعتَـقَد بما يناسب من القرائن والشّواهد. يكفي المرءَ أن يعود إلى مقالات الأصاليّين في هذا الباب - منذ الغزاليّ حتّى اليوم - كي يقف على صُوَرٍ مختلفة من أفعال التّشديد على ما بين الأنا (الإسلاميّة) والآخَـر من مبايَنَةٍ واختلاف، بل من تناقضٍ لا يُفَـكّ أو يرتفع... لأنّه «جوهريّ»!
وقد يأخذ الوعي الذّاتيّ شكلَ وعيٍ للمشتَرَك والمتشابِه بين الأنا والآخَـر. يقع مثل هذا الوعي، في الغالب، كلّما بارحتِ الأنا - أو بعضُها بالأحرى - حالةَ انقفالِ الوعي ذاته وإقامتِهِ العوازلَ بين نفسه والعالم، وكلّما دخلت - في المقابـل - في حالٍ من الإصغاء إلى الآخَـر، والانتباهِ إلى ما لديه وما هو عَسِيٌّ منه بأن يُنْـتَهـل ويُستفاد منه ويُبنى عليه. من النّافل القول إنّها حالةٌ مختلفة من حالات إدراك الأنا آخَـرَها أكثر تحرُّراً من قيود المركزيّة الذّاتيّة وأوهام التّفـوّق. وبمقدار ما يقود الفضول المعرفــيّ إلى إنتـاج هـذه اللّهـفة الإيجابـيّة على اكـتـشاف ما لدى الآخـر من مـواردَ وسـمات، يقـود - بالتّبِعة - إلى البحث عمّا بينه والأنا من مَواطن الشَّبَـه والاشتراك. وهكذا فإذا ما شُدَّ انتباهُ الوعي الباحث في مَـآثِر الآخَـر إلى قيمٍ بعينها مثل العلم والمعرفة والعدل والمدنيّة...إلخ، هُرع - على التّـوّ- إلى المدوّنة الحضاريّة العربيّة الإسلاميّة للاستدلال ببعض مبادئها وفتوحاتها على المشتَرَك الحضاريّ مع الآخَـر.
الغالبُ على مَن يَدْرُج على هذا النّوع من الموافَقَات أن يكون متشبّعاً بمبادئ ذات نَفَسٍ توفيقيّ من قبيل تلك المبادئ التي أنتجتْها الإصلاحيّة الإسلاميّة الحديثة ورسَّخَتْها على مثال نزعتها إلى مصالحة الإسلام بالعصر ومدنيّـته ومعارفه الجديدة. ولكنّ البحث عن ذلك المشتَرَك لم يكن دَيْدَن الإصلاحيّة الإسلاميّة وحدها، بل شاركها فيه تيّارٌ ثقافيّ آخَـر كان رموزُه مُنْهَمّين، باستمرار، ببناء الجسور بين الأنا والآخَـر من طريق السّعي الدّائب إلى قراءة مأثوره بحثاً عن المشتَـرَكات معه. لا ينصرف هذا الفريق إلى مشاطَـرةِ سابقِهِ (الإصلاحيّ) هواجسَه التّوفيقيّة ولا يقينيّاته الفكريّة، ولا هو يشغل نفسَه بإعادة تأويل قيم التّراث بما يجعلها مطابِقة للمدنيّة الحديثة أو بما يُـلْتَمَسُ لها به بعضُ المعاصرة، وإنّما هو ينصرف إلى الدّفاع عن فكرة كونـيّةِ القيم الإنسانيّة والحضاريّة واشتراكِ الثّقافات والأمم كافّـة في صناعتها. على العموم، يتضاءل الاحتفالُ بالذّاتيِّ في هذه الكيفيّة من وعي الأنا آخَـرَها، فيتّجه (الوعي) إلى إدراكٍ للحدّين معاً في تَلازُمهما على نحوٍ أكثر توازناً.