عندما تأسست مجموعة بريكس عام 2009، كان الهدف من إنشائها هو إيجاد تكتل دولي جديد ذي توجه سياسي مستقل عن التكتل الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، وقادر على تغيير مسارات الأحداث لصالح الدول المنضوية تحت لوائه.
الدول الأربع المؤسِسة للمجموعة، وهي الصين والهند وروسيا والبرازيل، كبيرة ومؤثرة ولها ثقل اقتصادي وسياسي وبشري كبير، ويمكن أن تكون أكثر تأثيرا في السياسة الدولية، إن تمكنت من تنسيق جهودها وتعزيز انسجامها السياسي والاقتصادي، وهذا ليس بالأمر السهل.
الانسجام الحقيقي بين دول بريكس غير موجود على أرض الواقع، رغم وجود مشتركات بينها، أولها السخط، أو عدم الرضا، من السياسات الأمريكية والغربية، والحماس لتغييرها. في عام 2010، أضيفت جنوب أفريقيا إلى المجموعة، وهي الأخرى دولة أفريقية مؤثرة، وإن لم يكن لها الثقل البشري والاقتصادي الذي تتمتع بها الدول الأربع الأخرى.
كان انضمام جنوب أفريقيا لبريكس مكسبا معنويا للمجموعة، باعتبار أنها دولة أفريقية مؤثرة وديمقراطية، ومازالت تحظى بتعاطف عالمي، خصوصا في العالم الغربي، بسبب الاضطهاد العنصري الذي عاناه شعبها خلال نصف قرن. لقد عزز انضمام جنوب أفريقيا من موقع البرازيل والهند في تكتل بريكس، وهما، مثل جنوب أفريقيا، دولتان ديمقراطيتان تتبعان الاقتصاد الحر، ولديهما علاقات وطيدة وواسعة مع العالم الغربي.
المشترك الآخر بين الدول الخمس هو الفقر المنتشر بين شعوبها، فهناك شرائح كبيرة، بمئات الملايين، تعيش تحت خط الفقر. ورغم أن الدول الاربع نمت نموا اقتصاديا سريعا خلال السنوات العشر الأولى من تأسيس بريكس، وكانت ستفعل حتى لو لم يُؤسَّس هذا التكتل، لتوفر الظروف المواتية للنمو، الذي انطلق من قاعدة منخفضة، إلا أن المجموعة بقيت غير فاعلة دوليا، إذ ظل تعاونها مع دول العالم الأخرى ثنائيا، ولم تتطور لديها سياسات مشتركة يمكن أن تميزها كمجموعة.
لقد ظل تجمع بريكس دون عقيدة سياسية واقتصادية راسخة، باستثناء مناهضة أمريكا والغرب، بدرجات متفاوتة بين أعضائه، وهذا وحده ليس كافيا، بل هو ليس بالأمر النافع، رغم أنه يشكل عقيدة لدى روسيا بوتن، التي تتكئ على إيراداتها الهائلة من النفط والغاز، لكن الصين، وهي القائد الفعلي للمجموعة، أو هكذا تطمح أن تكون مستقبلا، لا تسعى للمناهضة وحدها، بل للمناهضة التي تأتي عليها بالنفع والتقدم. أما الهند والبرازيل، فهما لا تناهضان العالم الغربي مطلقا، رغم تحفظهما على بعض السياسات الأمريكية، التي تريان بأنها ضارة، أو غير منصفة.
هناك عدم انسجام واضح بين أعضاء بريكس، روسيا والصين من جهة، والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا من جهة أخرى، في العديد القضايا المطروحة، لذلك يبدو البيان الختامي لتكتل بريكس عاما وغامضا. والخلاف بين الجانبين متوقع، وهو يشمل حتى مستقبل التكتل وتوسيعه ليضم دولا أخرى. فالهند والبرازيل وجنوب أفريقيا ترى بأن التوسع سيقلص من نفوذها لصالح الصين، لذلك ينشغل الوزراء في جدالات طويلة قبل أن يتفقوا على دعوة أعضاء جدد.
يبدو من الصعب على الدول المنضوية ضمن هذا التكتل أن تطور انسجاما بينها، بسبب الاختلافات السياسية والتوجهات الاقتصادية والرؤى حول العلاقات الدولية ودور كل منها. كما أن بعض أعضائها، روسيا مثلا، لديها مشاكل عميقة مع مختلف دول العالم بسبب غزوها أوكرانيا، وقبلها جورجيا، وهناك عقوبات دولية عميقة تتعرض لها، ومن غير المتوقع أن تتقبل الدول المعتدلة المنضمّة حديثا إلى التجمع، هذا السلوك الروسي، وإلا فإنها ستبدو مجموعة متمردة على المجتمع الدولي. وحتى جنوب أفريقيا، العضو الرئيسي في بريكس، لم تخاطر بمخالفة القانون الدولي باستقبال الرئيس بوتن، الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية في مارس الماضي، فطلبت منه عدم حضور القمة!
دول بريكس الثلاث، الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، تتمتع بعلاقات وطيدة مع الدول الغربية عموما، والولايات المتحدة تحديدا، وهي غير مستعدة لتأزيم علاقاتها، المثمرة حاليا، بمواقف عدائية للغرب، لإرضاء روسيا والصين. مثلا، العلاقة بين الهند والولايات المتحدة عميقة جدا، وحجم التبادل التجاري بينهما بلغ 157 مليار دولار في عام 2021، والولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأكبر للهند، والسوق الأكثر أهمية لصادراتها، وفق بيان وزارة الخارجية الامريكية في 18 يوليو 2022، الذي وصف العلاقة مع الهند بأنها "استراتيجية ومبنية على أساس القيم المشتركة، التي تشمل التزاما بالديمقراطية وتفعيل النظام الدولي القائم على القواعد، وأن البلدين لديهما مصلحة مشتركة في الترويج للأمن والاستقرار العالميين، وتحقيق الازدهار الاقتصادي عبر التجارة والاستثمار والتواصل".
البيت الابيض وصف في بيان صادر في 22 يونيو 2023، إثر زيارة رئيس الوزراء الهندي، نارندرا مودي، العلاقة بين الولايات المتحدة والهند بأنها "شراكة بين دولتين ديمقراطيتين هما الأقرب لبعضهما بين دول العالم". وتضمن البيان وثيقة مفصلة، حملت عنوان "الشراكة الاستراتيجية الكونية الشاملة بين الولايات المتحدة والهند"، وتضمنت 58 فقرة، وضعت الأسس الصلبة للعلاقات بين البلدين، التي وصفتها الوثيقة بأنها "بلغت مستوى جديدا من الثقة والتفاهم المشترك الذي تغنيه الصداقة والروابط العائلية التي تربط البلدين برابط لا انفصام له". ويقدر عدد الأمريكيين الهنود بـ 4.9 ملايين، وفق بيانات معهد سياسات الهجرة الأمريكي، ويشكل هذا رابطا قويا آخر بين البلدين والشعبين.
أما البرازيل فقد اعتبرتها الولايات المتحدة عام 2019 "أهم حليف للولايات المتحدة خارج حلف الناتو" وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2022 ما يقارب 121 مليار دولار. وتعتبر الولايات المتحدة ثاني أكبر سوق لصادرات البرازيل، بينما فاقت الاستثمارات الأمريكية في البرازيل 191 مليار دولار عام 2021.
أما العلاقة الامريكية مع جنوب أفريقيا فهي تأريخية، وقد كانت الولايات المتحدة من أوائل البلدان التي ناهضت قانون الفصل العنصري الذي فرضته حكومة الأقلية البيضاء على السكان السود عام 1948، إذ فرضت عقوبات على جنوب أفريقيا وفق قانون "مناهضة الفصل العنصري" الذي أقره الكونغرس الأمريكي عام 1986، كما دعمت بقوة الانتخابات الديمقراطية الأولى عام 1994 التي جاءت بالزعيم التأريخي، نلسون مانديلا، رئيسا للبلاد.
وقد استُقبل مانديلا استقبالا رسميا وشعبيا قل نظيره في الولايات المتحدة عام 1995، التي زارها بدعوة من الرئيس بيل كلنتن. كما قام الرؤساء كلنتن وبوش وأوباما أثناء رئاساتهم، بزيارة جنوب أفريقيا لتوطيد العلاقة بين البلدين. وعند تشييع مانديلا عام 2013، ألقى الرئيس باراك أوباما كلمة بليغة ومؤثرة رثى فيها الفقيد، وظل العالم يتذكرها بإعجاب. وتوجد شراكات متعددة بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا في مجالات عدة أهمها التعليم والصحة، وهناك علاقات اقتصادية متشعبة واستثمارات كبيرة، إضافة إلى العلاقات الوطيدة والراسخة بين الشعبين.
ظلت دول بريكس تختلف على معظم القضايا المطروحة للبحث، وكان ممثلوها يتجادلون لأيام عديدة كي يتفقوا على صيغة البيان الختامي، الذي يبدو لقارئيه كلاما عاما وغامضا. لكن التكتل حقق إنجازات مهمة، منها تأسيس بنك التنمية الجديد (NDB)، ومقره شانغهاي، الذي قدم قروضا بثلاثين مليار دولار حتى الآن، لعدد من دول العالم الثالث، وفق مجلة الإيكونوميست.
الخطوة المهمة الأخرى التي اتخذها تكتل بريكس هذا العام، هي دعوة ست دول مهمة اقتصادية وسياسيا إلى الانضمام إليه، هي المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الأمارات العربية المتحدة وإثيوبيا والأرجنتين وإيران، في توسع مفاجئ للمجموعة. لا شك أن روسيا والصين اقترحتا انضمام إيران، المنسجمة في خطابها المناهض للغرب معهما، لكن دعوة الأرجنتين قد جاءت برغبة البرازيل، وهي حليفتها وشريكتها الرئيسية في أمريكا الجنوبية. ولا شك أن دعوة إثيوبيا تبنتها جنوب أفريقيا.
ويعتبر انضمام المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الأمارات العربية المتحدة إلى بريكس، إن حصل، مكسبا كبيرا للتكتل، وسوف يضفي عليه طابع الاعتدال والعقلانية، معزِّزا مواقف الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وإن كانت مصر ستستفيد من الاستثمارات الصينية، واحتمال إيجاد حل لخلافها مع إثيوبيا حول اقتسام مياه النيل عبر قناة بريكس، فإن المملكة العربية السعودية، الدولة المستقرة والغنية بالطاقة، سوف تعزز من قوة التكتل اقتصاديا وسياسيا. وكذلك دولة الأمارات، التي تتمتع ببنى أساسية متطورة، وعلاقات دولية متشعبة، واقتصاد متنوع، هي الأخرى تعزز قوة التكتل بإمكانياتها اللوجستية والاقتصادية الواسعة. وباستثناء إيران، فإن الدول الخمس المقترحة قريبة من الغرب، وسوف تخفف من الخطاب المتشدد لمجموعة بريكس.
من الصعب القول إن تجمع بريكس سيكون مكافئا للتحالف الغربي المتماسك، الذي يتمتع بانسجام سياسي وقوة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية واضحة، ولديه ذراع عسكري ضارب، هو حلف الناتو، وقيادة قديرة تتمثل بالولايات المتحدة، الدولة الأقوى في العالم، اقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا وعسكريا.
لكن تكتل بريكس مطلوب عالميا من أجل عقلنة القوى الغربية ودفعها للتفكير بأن هناك بدائل وخيارات، بإمكان الدول الأخرى أن تلجأ إليها إن لم تتبنَ الدول الغربية سياسات عادلة ومنصفة لدول العالم النامية. إن لم يُحدِث بريكس التوجه الاقتصادي المشترك، ويبلور أهدافا واضحة المعالم لأعضائه، تأتي بالنفع والتقدم على جميع المنضوين تحت لوائه، فإنه سيتحول إلى تجمع مشابه لمجموعة "عدم الانحياز"، التي تلاشت من الوجود، عندما تجاوزتها التطورات العالمية، لأنها تأسست من أجل هدف واحد هو الاستقلال عن المحورين الغربي والشرقي. البقاء في عالم اليوم يعتمد على المساهمة الفاعلة في الاقتصاد العالمي، والانسجام مع المجتمع الدولي، وخلاف ذلك، لا وجود حقيقيا لأي دولة أو تكتل.