(إلى العزيز عمر عبد العزيز)

في مبدأ الهجرة يبدأ التحدّي، لأن الحرية التي نتطلّع إليها ليست هبة مجّان، في ناموس هذه الكاهنة، ولكنها فاكهة هجرة. والهجرة ليست نموذجاً يدلّ على ترف، ولكنها نزيف يترجم حرفاً في أبجديّة شرف؛ لأن رأسمالها إدمان السيرورة. سيرورة تنتج في أعطافها اغتراباً بقدر ما تلتهم من مسافة. إنها حضورٌ في الطريق، الذي لن يستوي كطريق، ولن يكتسب ماهيّة قدسيّة كالطريق، ما لم يتحوّل، بالإحتراف، طريقةً. وما هي الطريقة، في عرف الأجيال، إن لم تكن حقيقة؟

فهل يجرؤ التنميط أن يدّعي استيعاب حمولة جسيمة في منزلة الحقيقة، وهو الذي لم يستحِ أن يسفّه حُجّة موضوعها الصحراء، فيكتفي باختزال وديعة، بل ودائع، هذه المربية الحكيمة، في مفردة عابرة، هي الحرية، دون أن يسطّر في حقّها الأسفار الجديرة باستجلاء كنوزها الروحية الخفيّة؟

الطريق روحٌ لها مفعول السحر، في إنتاج الوحي، لأنها الزند الذي اعتاد أن يقدح شرر الحدس، كوصيٍّ على مستودع ما استعصى على الحسّ، هو مبدع النبوّة، التي آلت على نفسها أن تحقق الخلاص، لأنها النصيب المستحقّ، الذي هيمن بفضل العهد المبرم مع حقيقةٍ اغتربت بسبب طغيان التنميط.

فالحرية التي يتبنّاها منطق التنميط حرفيّة، لأنها حكمٌ طائش، ولا تُضحّي بالقدر الكافي لتُنصف الموضوع قيد النمذجة، أمّا الحرية، التي يعتنقها قاضي قضاة المسألة، فهي حرية الأبعاد القصوى، حرية البُعد الروحيّ، الجديرة بأن تنتصب، في العلاقة بالحقيقة، شهادةٌ في عقد قران.

فما يروق التنميط هو أن يسطو على صلاحيات النمذَجة، بالإستيلاء على عرش البطل، في الأعمال الأدبية المرجعية، التي ورثناها في أسماء رائدة أبت إلّا أن تحقّق مجدها بتقلّد التّاج، بانتحال الإسم نفسه، كما في «هاملت»، أو «عُطيل»، أو «تاجر البندقية»، أو «الملك لير»، أو «الأوديسة» أو أو «الإلياذة» أو «الإنيادة»، فتتنازل روح التنميط عن ممارستها التخريبيّة، لتسعد بالقيام بدور الفروسيّة في عقد صفقة العهد بين رومانسيّة النفس الشعرية في وجدان الطبيعة الخصوصيّة، وصرامة الحكمة الكامنة في الطبيعة العمومية، لتعزّز الحسّ الوقتيّ، في مسيرة توحيده مع الحدس الأبديّ، فيتحرّر النموذج، من أسمال نمطيّته، لتسطع الحقيقة بفضل استواء النموذج في برزخ رمزيّته.

فالتّنميط يبقى سجين لا أخلاقيّته، عدوانيّته، عدميّته، ما لم يشفع له وسيطٌ هو النموذج، فيعترف بزواج ما كان حرفاً في طينة الخصوصيّة، عندما يتماهى في روح مختبر العموميّة، لينتج جنيناً، مترجماً في درسٍ جديرٍ بأن تتغنّى به الأجيال.

في هذا البُعد، يستطيع تنميط الصحراء كحرية، أن يستعير مفهومه الحقيقي، المجرّد من روح الإبتذال، والأقوى حُجّةً ممّا توهّمنا، لأنه الأثرى ذخيرةً مما اعتنقنا.

فالواقع أننا لا نستطيع أن ندرك مدى خطورة مفهوم الحرية، الذي يتحفنا به جناب التنميط، في صورته العارية من ورقة التوت، لأن الحرية التي تُبتذل، عندما يتشدّق بها الهواة، عندما يطرحونها كفاكهة منتجة بحرف الصحراء، ليست هي نفسها الحريّة، التي تتغنّى بها الصحراء، من وجهة نظر الصحراء نفسها، سيّما إذا حكّمنا في شأنها الحكمة التي تقول أن الحرية سرٌّ لا نستطيع أن نعبّر عنه بمواهب اللغة، مثلها في ذلك مثل قرينتها الحقيقة تماماً. وعلّ أوّل حرف في أبجديّتها يقول أن الحرية المعنيّة هنا ليست حرية أن نتنصّل من حصون العمران الخانقة، لنسعى في الخلاء طلقاء، لأن العزلة، التي تهبها الصحراء، لن تجرّدنا من الأصفاد التي تسكننا، وخروجنا إلى الصحراء لن يعفينا من وزرها، بل ربّما أجّج سعارها فينا. وهو ما سيعني أن الحرية التي تروّضنا عليها الصحراء أقوى حجّة، وأنبل مفعولاً، لأن حجر الزاوية فيها هو تحرير ما بالنّفس، لغاية مجيدة هي تغيير ما بالنفس، لكي نتأهّل لبعث أنفسنا من أنفسنا، لنوجد بالروح هذه المرّة، بدل ميلادنا الأول بمشيئة الطبيعة الأمّ، لا بمشيئتنا نحن، وهو ما لا يحدث بدون الجود بنزيف القرابين السخية، على طريقة الأنبياء، الذين استطاعوا أن يحقّقوا الخلاص للبشرية، بفضل قدرتهم على استثمار الهجرة في الصحراء، التي لم تكن سوى جرعة سخيّة ومركّبة من حرية الأبعاد القصوى، التي أهّلت الحرية لأن تحتلّ منزلة قرين الأحجية المدعوّة في لغتنا الأرضيّة: حقيقة!

فخطيئة التّنميط هو الاجتهاد في إغلاق الباب في وجه الإجتهاد. الإجتهاد المعادي لتطويع الموضوع، قيد عملية التنميط، كي يلعب دور المسَلَّمة. والمسَلّمة، كما نعلم، عتبة في فنّ التحنيط. ولمّا كان المنطق يحرّضنا على التشكيك في المسَلّمات، بدل اعتناق دين المسَلّمات، فإن حرية الصحراء تبقى سجينة سوء الفهم، الناتج عن الحكم المسبق، وما يستهوي عقلية الهواة ليس الفحص، ليس التشخيص، ولكن إدمان الحكم المسبق، على طريقة النموذج المؤدلَج، الذي لا يعتنق احتكار الحقيقة، ما لم يكن مشفوعاً بوسام الحكم المسبق؛ لأنه الضمان الوحيد للإحتفاظ بالسلطة.

والحواة، الذين أطلقنا عليهم إسم الهواة، ملّةٌ تعي مفعول استنزال حكمٍ تنميطي، بل تحنيطي، كحرية الصحراء، الذي لن يكون، في المفهوم، سوى الاستهانة بالقيمة، المعطاة بفضل وجود عدمٍ، في واقعنا الجغرافي، مترجَمٍ في حرف عنقاء مغرب، انتصاراً لرؤية عدميّة مبيّتة مسبقاً في حقّ يابسةٍ، ناسكةٍ، متبتّلةٍ، مستنزلةٍ، منزّهَةً، تتوارى استحياءً من إثم سليلٍ، دنّس حُرمتها يوماً، بوصفها مسقط رأس التكوين!