في الصورة الأكبر حيث يتوجب على الناس أن يفعلوا أكثر من مجرد التوافق في سبيل ازدهار جنسنا البشري، فإن السلوكية تبدو طريقة غير مناسبة للتفكير في المجتمع، وخصوصا عندما يكون "افتراضيا" على مواقع التواصل الاجتماعي.
النظرية السلوكية هي واحدة من أشهر النظريات النفسية، التي تتبنى فكرة العلاج القياسي، كالعلاج عن طريق الكلام، والتي تؤمن أن تحسين السلوك أو الارتقاء بنوعية الحياة يمكن أن يتم من خلال التكيّف، وقد ظهرت هذه النظرية لدراسة سلوك البشر على أساس أن السلوك البشري سهل الملاحظة والدراسة والتقييم.
فإذا كنا نرغب في تحفيز النتائج عالية القيمة والإبداعية، بدلا عن إجراء تدريب محفوظ عن ظهر قلب، فإن المكافأة والعقاب ليستا الأداتين المناسبتين لذلك على الإطلاق.
هناك سلسلة طويلة من الباحثين الذين عكفوا على دراسة هذا الموضوع، بدءا من أبراهام ماسلو في خمسينيات القرن الماضي، واستمر الأمر مع العديد من الباحثين الآخرين بما فيهم ميهالي تشيكسينتميهالي (عالم نفس قدم مفهوم "التدفق"، وفيه ينتقل المستخدم بسلاسة عبر مواقع الإنترنت، ولا يكون على دراية بأفعاله لأن كل شيء سهل للغاية).
وأجمع هؤلاء الباحثين على أنه بدلا من تطبيق الآليات البسيطة للسلوكية، فإننا نحتاج إلى التفكير في الأشخاص بطرق أكثر إبداعية، إذا كنا نتوقع منهم أن يكونوا مبدعين ومختلفين ومتميزين.
نحتاج إلى تعزيز التفرد والتحدي والفضول وغيرها من الصفات الأخرى التي لا تتناسب مع مخطط منظم، مع التأكيد على وجود شيء يتعلق بعدم مرونة التكنولوجيا الرقمية، يجذب طريقة التفكير السلوكي.
ليس من المستغرب أن يكون بور هوس فريدريك سكنر (عالم نفس أميركي عرف ببحوثه في ميدان التعلم والمعرفة، وإيمانه بالمجتمع الموجّه)، لاعبا رئيسيا في بدايات عصر الشبكات الرقمية، إذ رأى أنها طريقة مثالية لتدريب الأفراد على العيش في "المدينة الفاضلة" التي سعى إليها، والقائمة على السلوك الحسن من جانب الجميع.
حمل أحد كتب سكنر اسم "ما وراء الحرية والكرامة"، وفيه قدم مصطلحات مثل "الارتباط"، وغيرها من الكلمات التي باتت جزءا من هذه اللغة الجديدة، والتي أدخلنا عليها مصطلحات مثل "إدمان" و"تعديل السلوك"، وأصبحنا نسمي عملاء مواقع التواصل بــ"المُعلنين".
قد يبدو هؤلاء المُعلنين مسوّقين لمنتجات كالأزياء ومستحضرات التجميل وغيرها، إلا أن بعضهم قد يعمل على أجندات خفية خطيرة كتقويض الديمقراطية، ويدين بالفضل والولاء لشبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يجعل اسم "المتلاعبين" يليق بهم أكثر.
يرجع نشوء طبقة "المتلاعبين" إلى تطور الإعلانات عبر الإنترنت، والتي أصبحت بالتوازي مع تقدم التقنيات، مترافقة بحوافز مالية، وظهور "إمبراطوريات تعديل السلوك القابل للشراء".
وتسببت الطبيعة غير المخطط لها للتحوّل من الإعلان إلى تعديل السلوك المباشر، في تضخيم هائل للسلبية والإدمان، وإمكانية التلاعب بالمشاعر عندما يتعلق الحديث بالشؤون الإنسانية.
من المؤسف أن يساهم "مزيج" من علوم الرياضيات والأحياء والنفس في تدهور حياة البشر والمجتمع، وظهور وحدات حرب المعلومات التي توجّه الانتخابات، وتجنّد مجموعات الكراهية، وجني العدميين لمكاسب عديدة (تفترض الفلسفة العدمية النظرة الفوقية الأخلاقية التي تقول بأن الأخلاق لا وجود لها كشيء ملازم للواقع الموضوعي المجرد من العواطف والمشاعر).