الحرائق التي اندلعت هذا العام في كندا والولايات المتحدة وأستراليا فاقت كل التصورات وأحدثت دمارا واسعا، ماديا وبشريا وبيئيا، بل تجاوزت الأرقام القياسية في السنوات السابقة.
الأضرار البيئية والمادية التي أحدثتها هائلة، والمشكلة الأعظم أنها تفاقِم الاحترارَ الكوني، المتفاقِم أصلا، وتلوِّث البيئة، وتنذر بنشوب حرائق أوسع في المستقبل لأنها أحدثت تغيُّرا في المناخ. التقنيات الحديثة لإطفاء هذه الحرائق، أو التنبؤ بحدوثها، لم تتطور بعد، وهي حتى الآن لم تواكب الاحترار الكوني المتصاعد.
والسؤال المحير هو ماذا سيحصل للعالم لو شب حريق في غابات الأمازون، التي تعتبر رئة العالم التي يتنفس بها؟ وهل يمكن حقا إطفاء مثل هذه الحرائق إن اندلعت على نطاق واسع؟ خصوصا مع ارتفاع درجات الحرارة المتواصل؟ وماذا ستكون عواقب مثل هذا الحريق على العالم؟
خلال أسبوع واحد في شهر يوليو الماضي، الذي اعتبر الأسوأ في تأريخ كندا، اندلعت الحرائق في 900 غابة في عموم البلاد، محرِقةً النباتات في مساحة تفوق 10 ملايين هكتار. هذه الحرائق أطلقت كميات هائلة من غاز ثاني أوكسيد الكربون الملوِّث للبيئة، تفوق ما يُطلق خلال عام كامل في البلد كله في الأوضاع العادية، وفق تقدير الخبراء.
وفي أستراليا، امتدت الحرائق لتشمل مناطق عديدة، خصوصا داروين وبريزبين، وقد أثَّر دخانُها على سكان المناطق المجاورة، خصوصا أولئك المصابين بالربو، الذين يفوق عددهم (2.7) مليون، حسب جريدة الغارديان، وهذا العدد يشكل أكثر من 10% من سكان أستراليا البالغ عددهم (26.7) مليون نسمة.
ويحتوي الهواء المنطلق من الحرائق على "جزئيات تنفِذ إلى القصبات الهوائية عند الإنسان فتتفاعل معها، وتسبِّب انكماشَها وضيقها"، حسب الدكتور مايكل غولدمان، رئيس فريق معالجة الربو في أستراليا. ويقول غولدمان "إنها تجربة مخيفة للأطفال والمسنين، والمصابين بالربو".
ومما يضاعف المشكلة في استراليا أن السلطات تقوم بحرق الغابات والأُجُم والأشجار والحشائش المحيطة بالمدن، قبل اندلاع الحرائق الطبيعية، بهدف منع وصول النيران والدخان الخانق إلى سكان المدن. وبسبب ارتفاع درجات الحرارة، فإن الوقت المتاح لإحداث الحرائق الهادفة إلى درء خطر الحرائق الطبيعية صار قصيرا. استمرت الحرائق هذا العام لفترة أطول من الأعوام السابقة، نتيجة الاحترار الكوني، الأمر الذي أرهق مؤسسات البلد المتخصصة بإطفاء الحرائق ومعالجة آثارها.
لقد ازداد فصل الحرائق الآن 56 يوما عما كان عليه قبل 30 أو 40 عاما، حسب مصادر رسمية. وتهدد الحرائق بإحداث تغيير دائم في المناخ، وزيادة احتمالات اندلاع الحرائق لفترات أطول في المستقبل، خصوصا مع عودة ظاهرة "أل نينو" (El Niño) المتوقعة في العام المقبل، حسب التنبؤات الجوية. وتتسبب ظاهرة "أل نينو" باحترار مياه المحيط الهادئ، يصاحبها ضغطٌ جوي عالٍ في السواحل الغربية للمحيط، وضغطٌ جوي منخفض في سواحله الشرقية، الأمر الذي يتسبب بالجفاف وارتفاع درجات الحرارة، بينما تتسبب ظاهرة "لا نينا" (La Niña)، وهي ظاهرة معاكسة تماما لظاهرة "أل نينو"، بأمطار غزيرة وأجواء باردة، تنتعش خلالها النباتات والحشائش والأشجار.
الخطورة تكمن في التفاوت والتذبذب الحاصل في المناخ في الدول المطلة على المحيط الهادئ، بين سنين باردة وممطرة، أثناء فترة "لا نينا"، وأخرى جافة وحارة أثناء فترة "أل نينو". في السنين الممطرة، التي عادة ما تستمر 3 سنوات، تنمو الأشجار والأُجُم والأعشاب والحشائش البرية بكثافة، لكن سني الجفاف تأتي بالأجواء الحارة، الأمر الذي يزيد من أخطار الحرائق لتلتهم الأشجار والنباتات التي نمت أثناء الفترة السابقة. إنها دوامة بيئية متفاقِمة، ومن الصعب معرفة ماذا ستؤول إليه، وهل ستنتقل إلى بلدان العالم الأخرى في المستقبل إنْ تزايد الاحترار الكوني.
المجلس القومي لمكافحة حرائق الغابات في أستراليا ونيوزيلاندا، نشر تقريراً مطلع يونيو الماضي يتنبأ بمخاطر متزايدة للحرائق في المناطق الوسطى والشمالية لأستراليا خلال الشتاء المقبل.
الدمار الذي أحدثته الحرائق في كندا والولايات المتحدة وأستراليا ومناطق أخرى من العالم، حفَّز المؤسسات العلمية على ابتكار أجهزة تتنبأ بوقوع الحرائق، كي تتمكن السلطات المعنية من التعامل معها، قبل وقوعها، أو على الأقل حماية الأرواح والممتلكات وتقليص الأضرار الناتجة عنها.
شركة "أورورا تك" الألمانية سبّاقة في هذا المجال، إذ يوجد لديها الآن قمران صناعيان في المدار السفلي للأرض، يحمل كل منهما مَجَسّاتٍ مجهَّزةً بالأشعة تحت الحمراء، تراقب درجات الحرارة، وهي تعتزم إطلاق 6 أقمار صناعية أخرى في مدارات الأرض في العام المقبل.
ويقول مدير الشركة، توماس غروبلار، لجريدة الغارديان، إن البرامج التي طورتها الشركة "قادرة على تحديد أي المناطق يمكن أن تندلع فيها الحرائق قبل غيرها". وتتوقع الشركة أن أقمارها الصناعية ستتمكن من إجراء عملية مسح كامل للكرة الأرضية، 48 مرة في اليوم.
أما شركة "كورني" الأمريكية، فتستخدم الذكاء الاصطناعي لتغذية البيانات الجغرافية والطبغرافية في الخرائط التفاعلية، وبذلك تتبيَّن المناطق التي يحتمل فيها اندلاع الحرائق. ويقول مديرها العام، جوش مندلسون، لجريدة الغارديان "إننا نحاول تمكين مديري الغابات أن يبينوا للناس أخطار الحرائق (وأماكنها) بدقة"، كي يبتعدوا عن المناطق المتأثرة عند العجز عن إطفائها.
في الولايات المتحدة، اندلعت الحرائق في العديد من الولايات، محدِثةً أضراراً واسعة النطاق. وقد أعلن مركز المناخ والحرائق والانهيارات الثلجية الأمريكي (Fire, Weather & Avalanche Center) على موقعه الألكتروني أن 49 حريقا اندلع في كالفورنيا وأحرق الغابات والأشجار والأُجُم في مساحة تقدر بـ 44,703 هكتارات، وأن 244 حريقا اندلع في تكساس محرِقاً مساحة بحجم 24,362 هكتارا، وفي أريزونا اندلع 26 حريقا بمساحة 7953 هكتارا، وفي مونتانا اندلع 23 حريقا على مساحة 5400 هكتارا، كما اندلعت حرائق في ولايات نيو جرزي ونيو مكسيكو وواشنطن وكولورادو، ولكنها أقل شراسة.
غابات الأمازون المطرية تمتد عبر ثمانية بلدان وتبلغ مساحتها سبعة ملايين كيلومتر مربع، أي 700 مليون هكتار، وهي أكبر غابة طبيعية في العالم ويعتبرها خبراء البيئة رئة العالم الذي سيختنق بالغازات والملوِّثات إن أصابها خلل. ولم تسلم الأمازون من الحرائق في السنوات الأخيرة، ففي عام 2019، اندلعت النيران فيها والتهمت 47 مليون هكتار، وهذه تفوق مساحة العراق (البالغة 43831400 هكتار)، ولم يكن إطفاؤها سهلا، لأن الإطفائيين غير مدربين على التعامل مع الحرائق الكبيرة، التي تحتاج إلى مهارات عالية وإمكانيات هائلة.
عمليات الإحراق والتجريف والقطع التي يقوم بها الأفراد والشركات، على حدٍ سواء، والتي جرت على نطاق واسع في عهد الرئيس البرازيلي السابق، جائير بولسونارو، ألحقت أضراراً واسعة بهذه الغابات الفريدة من نوعها، والتي يحتاجها العالم، بل قد تكون المنقذ الوحيد من الاحترار الكوني والتغير المناخي، وكوارث طبيعية أخرى غير منظورة.
الرئيس الجديد، لولا دي سيلفا، وعد بإيقاف هذه العمليات، لكن المنظمات البيئية والدولية، وكذلك العديد من حكومات العالم، ترى أن مسؤولية الحفاظ على غابات الأمازون المطرية هي مسؤولية دولية ويجب ألا تترك لحكومة البرازيل وحدها، بل يجب تعويض البرازيل ماديا لقاء صيانتها وعدم استغلالها في مجالات أخرى، وإبقائها غابة طبيعية، واهبة للأوكسجين وخازنة للكربون.
وقد أطلقت منظمة اليونسكو، في أعقاب حرائق عام 2019، برنامجا لتدريب 500 متطوع على إطفاء الحرائق المحتملة في الأمازون، وتزويدهم بالمعدات اللازمة لمثل هذا الطارئ، حسبما نشرته جريدة (يورو نيوز) في يوليو الماضي. ومعظم هؤلاء، ونصفهم من النساء، هم من سكان الأمازون، لأنهم المعنيون والمتضررون الأوائل عندما تندلع الحرائق، لذلك توجد ضرورة لأن يتدربوا كي ينقذوا أنفسهم من الحريق، ويحموا الغابات في الوقت نفسه.
أيُّ حريق في غابات الأمازون سيترك أثرا سلبيا على المناخ في الكرة الأرضية، أما إذا كان بحجم حريق عام 2019، أو أوسع منه، فإن آثاره السلبية ستكون مضاعفة. فهو من جهة يطلق الغازات الملوِّثة للبيئة، ويرفع درجة الاحترار الكوني، المتفاقِم أصلا، ومن جهة أخرى يقضي على أكبر مصدر للأوكسجين، وأهم مخزن للكربون في العالم، مفاقِماً بذلك الوضع البيئي العالمي، ومعرِّضاً البشرية لمزيد من الأخطار.
لم تتعامل الكثير من دول العالم بجد مع التغير المناخي، إلا خلال ربع القرن الأخير، وحتى هذا الاهتمام المتأخر لم يكن بالجدية التي تتطلبها خطورة الوضع وحراجته، فالولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب، تخلَّت عن التزامها بمقررات مؤتمر باريس حول المناخ، دون حرج، رغم أنها ثاني أكبر ملوِّث للبيئة في العالم، إذ تطلق 4.4 مليار طُن من ثاني أكسيد الكربون سنويا، بينما تطلق الصين 9.9 مليار طن، وفق بيانات مؤسسة (سيلَكترا) للاستشارات المناخية لعام 2022.
وعند المقارنة مع أرقام الانبعاثات الغازية لعام 2021، وفق بيانات مؤسسة (كلايمنت تريد)، نرى انخفاضاً طفيفاً عن مستوياته للعام السابق. هناك ضرورة لأن تتقلص الانبعاثات الغازية بدرجة أكبر، خصوصا تلك التي يطلقها الملوثون الكبار، وهم الصين وأمريكا والهند واليابان وروسيا وألمانيا وإيران. وتسجل للإدارات الديمقراطية منذ عهد الرئيس بيل كلنتن، أنها أكثر اهتماماً بالبيئة، وإدراكاً لمخاطر التلوث من الإدارات الجمهورية، ولا يمكن نسيان الدور البارز الذي لعبه نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، أل غور، في تسليط الأضواء على المشكلة البيئية والبصمة التي تركها على مؤتمر كيوتو عام 1997.
البشرية تحتاج لأن تنقذ نفسها من خطر يتعاظم كل يوم، وليس مستبعدا أن يتسارع التفاقم بوتيرة تفوق التوقعات، وحينها يصير الإصلاح صعبا. إن هناك مسؤولية عظمى تقع على الأجيال الحالية في الحفاظ على الحياة في هذا الكوكب قبل أن يقع المحذور.