قد يبدو هذا السؤال غريبا بالنظر إلى الحملات الشرسة التي تشنها عدد كبير من الصحف ووسائل الإعلام الأميركية على الرئيس السابق دونالد ترامب، ومحاولة شيطنته وتقليص شعبيته بإلصاق كافة الاتهامات والصفات السلبية به، واتهامه بأنه السبب الأوحد لما وصلت إليه الولايات المتحدة من انقسام مجتمعي واضح ومن كبوة ديمقراطية وتعثر اقتصادي، واهتزاز صورتها خارجيا.

وذلك محاولة واضحة للتأثير على الناخب الأميركي لمنع إعادة انتخاب "الشيطان الأكبر" كما تراه، ومنع شبح عودته للبيت الأبيض مرة أخرى، ومع الإعلام كان القضاء الذي جعل ترامب يدخل تاريخ أميركا باعتباره أول رئيس سابق أو حالي في تاريخها يواجه اتهامات جنائية وصلت حتى الآن إلى 4 لوائح، كان ثالثها ما تم إعلانه مطلع الشهر الجاري حين وجهت إليه تهم جنائية في تحقيق اتحادي في محاولته إلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 والبقاء في سدة الحكم حينها، والتآمر للاحتيال على الولايات المتحدة، والتلاعب بأقوال شاهد، والتآمر على حقوق المواطنين، وتحمليه مسؤولية أحداث الشغب التي وقعت قبل عامين ونصف العام في مبنى الكابيتول بالعاصمة واشنطن، في حين كان آخرها ما تم إعلانه منذ أيام في ولاية جورجيا التي وجهت له 41 اتهاما منها: أقوال وكتابات كاذبة، وانتحال صفة موظفين عموميين، والتزوير، وتقديم مستندات مزورة، و التآمر احتيالا على الدولة، والسرقة، والحنث في اليمين.

إزاء هذا الهجوم الإعلامي الشرس ولوائح الاتهامات الجنائية التي تجاوزت في مجموعها 91 اتهاما، والتي ربما لم يواجهها مجرمون وزعماء عصابات، إزاء كل هذا قد يستغرب البعض من إثارة سؤال حول إمكانية عودة لترامب للبيت الأبيض في يناير بعد المقبل، بل إن هناك من يرى أن السؤال الأدق والأوقع والأصح هو: هل ينجو ترامب من السجن؟ وهل يستطيع أن يعود إلى بيته لا إلى البيت الأبيض بعد نهاية هذه المحاكمات التي يبدو أنها لن تتوقف قريبا، وستستمر طيلة استمرار حملته الانتخابية؟

الواقع أنه لكل هذه الأسباب التي تحدثنا عنها، والتي يرى البعض أنها ستنتهي بترامب قابعا في أحد السجون الفيدرالية كأول رئيس أميركي حبيس، أو على الأقل ستنهي للأبد مسيرته السياسية وستقضي بلا رجعة على طموحاته الرئاسية، كثاني رئيس أميركي ينتخب لفترتين غير متتاليتين.

إلا أن العكس تماما قد يكون هو الصحيح، فقد تكون الحملات الإعلامية الممنهجة والمحاكمات القضائية المتتالية والمحكمة سببا رئيسيا في عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فما يبدو جليا حتى اللحظة أن مسار حملته الانتخابية قد أخذ منحى مختلف منذ توجيه لائحة الاتهام الأولى له في ابريل الماضي وما صحابها من حشد إعلامي يروج لها على أنها أخطر اتهامات يمكن أن توجه لأي شخص، فقبل توجيه هذه الاتهامات وقبل بدء مسار المحاكمات كان يبدو أن منافس ترامب على ترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات التمهيدية رون ديسانتس يسير بخطى ثابتة لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية.

فبعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر الماضي بدا أن حاكم فلوريدا هو الفائز الأكبر من هذه الانتخابات بعد أن فاز باكتساح بانتخابات حاكم الولاية واحتفظ بمنصبه بكل سهولة بفارق يزيد عن 1.5 مليون صوت عن منافسه، وبدأ يظهر كوجه جمهوري مفضل لكثير من الناخبين، وبدا منافسا جديا لترامب، الأمر الذي أدركه الأخير، مما دعاه إلى تحذيره من الترشح في انتخابات الرئاسة قائلا إن ذلك سيضر بالحزب الجمهوري، بل وصل بترامب الخوف من منافسه إلى تهديده بالإفصاح عن معلومات خاصة بالسياسي البالغ 44 عاما، دون تقديم تفاصيل، في إشارة واضحة إلى أن ترامب أدرك وقتها تماما الواقع الجديد الذي فرضته الانتخابات النصفية، وحجم التهديد الكبير الذي يشكله ديسانتيس عليه.

ظلت الأمور على هذا المنوال في ظل تقارب شديد في استطلاعات الرأي بينهما، وذلك حتى جاءت اللحظة المفصلية في أبريل الماضي التي غيرت اتجاه الأمور وحسمت المنافسة تقريبا بين الاثنين، وذلك عندما أصبح ترامب أول رئيس أميركي يواجه اتهامات جنائية بعد أن قررت هيئة محلفين في نيويورك توجيه اتهامات إليه، ومنذ ذلك الوقت وشعبية ترامب في تزايد مستمر وازدادت قوة التأييد والدعم له بعدما نجح في تصوير نفسه كضحية وبعدما أدرك كثير من مؤيديه أن الاتهامات الموجهة إليه مسيسة بشكل كبير وذات دوافع سياسية، وهدفها عرقلة خوضه الانتخابات الرئاسية، حتى بعض خصومه أو غير المتحمسين له من الجمهوريين مثل لوك جوردون، الذين لا يؤيدون عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ينظرون إلى لوائح الاتهام المتلاحقة وإطارها الزمني الضيق ببعض الشك، وهذا ما أوضحته استطلاعات رأي الناخبين الجمهورين، فوفقا لآخر استطلاع أجرته شبكة "سي بي إس نيوز"، يقول 76 بالمئة من الناخبين الجمهوريين المحتملين إن لائحة الاتهام بشأن الوثائق السرية كانت "ذات دوافع سياسية"، كما يقول 61 بالمئة إن لوائح الاتهام ضد ترامب لم تغير نظرتهم إلى الرئيس السابق، بينما يقول 14 بالمئة إنها جعلتهم يرون ترامب بشكل أكثر إيجابية.

أما على مستوى المنافسة على ترشيح الحزب الجمهوري فأصبح الآن ترامب مسيطرا على كافة استطلاعات الرأي بشكل كبير وبفارق شاسع عن أقرب منافسيه، فبعدما كان الفارق بين ترامب وديسانتس في فبراير الماضي فقط نقطتين (41 بالمئة مقابل 39 بالمئة) ، تبين نتائج الاستطلاعات الحالية أن نجم ديسانتيس بدأ يبهت بينما ظل دعم وتأييد ترامب قويا للغاية، فوفقا لآخر استطلاع حصل ترامب على 54 بالمئة بينما حصل رون ديسانتيس على 17 بالمئة فقط بفارق 37 نقطة، وهو الفارق الذي يبدو أن يتسع مع كل اتهام جديد يوجه إلى ترامب، وهو ما يجعل فوره بترشيح الحزب الجمهوري يبدو وكأنه صار أمرا حتميا، وهي الخطوة الأولى والصعبة في الطريق إلى البيت الأبيض، وهنا يبدو أننا سنكون على موعد مع جولة إعادة ثانية العام المقبل بين بايدن وترامب، وهنا يجب على بعض أنصار بايدن وبعض الديمقراطيين الذين كانوا يتمنون في البداية ترشح ترامب باعتبار أن الفوز عليه ممكنا، إعادة التفكير في هذه الفرضية وتوخي الحذر جيدا في ظل شعبية لترامب تزيد مع كل اتهام جديد يوجه إليه.