لا يشير الدستور الأميركي إلى الأحزاب أو يعتبرها أساساً للتنظيم والفعل السياسي. في الثلاثة أشهر الفاصلة في التاريخ الأميركي بين مايو وسبتمبر في 1787 حين اجتمعَ "الآباء المؤسسون" في مدينة فيلادلفيا لتعديل دستور 1781 (الدستور الأميركي الأول)، قبل أن يتفقوا على أنه غير قابل للتعديل، ليقرروا كتابة دستور جديد هو الدستور الحالي، كان الإحساس السائد بينهم أن الأحزاب السياسية شيء سيء ينبغي تجنبه.
كان هذا الإحساس انعكاساً لتفكير أوسع بين النخبة السياسية الأميركية، المتأثرة وقتها كثيراً بالثقافة والتجربة السياسية البريطانية، أن الأحزاب عبارة عن تشكيلات عصبوية تقود إلى الانشقاق والنزاع الأهلي والفوضى التي يُسفك فيها الدم ويُقوض القانون وتضيع المصلحة العامة. كانت تجربة الصراع الدموي والحرب الأهلية البريطانية في القرن السابع عشر التي تصدرتها جماعات سياسية متنازعة، أقرب للأحزاب السياسية الحديثة، حاضرةً في ذهن هذه النخبة التي كانت تسعى لعدم تكرار مثل هذا السيناريو في البلد الجديد. (كانت هناك بعض الاستثناءات من هذا التفكير الشائع وقتها كما في توماس جيفرسون الذي آمن مبكراً بأهمية الأحزاب متأثراً بتجربته في فرنسا وقيم الثورة الفرنسية).
بدلاً من الأحزاب كمؤسسات تدير الخلافات، ذهبت النخبة الأميركية إلى التركيز على الأشخاص بوصفهم حاملي آراء مختلفة ومتنازعة تعكس مصالحهم السياسية والاقتصادية. ولذلك ضمت الرئاسة الأميركية الأولى والثانية التي قادها جورج واشنطن بين عامي 1788 و1796 مسؤولين أقوياء الشخصية ومختلفين بآرائهم كما في نائب الرئيس ومنافسه على المنصب الرئاسي، جون آدامز الذي سيصبح ثاني رئيس لأميركا، ووزير الخارجية، توماس جيفرسون، ووزير الخزانة اليكساندر هاملتون. شكل جيفرسون وهاملتون أول حزبين متنافسين في أميركا الدولة، ليعكس هذان الحزبان النزعتين الأساسيتين المختلفتين في أميركا حتى اليوم: نزعة اتحادية تمنح سلطات أكثر للحكومة الفيدرالية، ونزعة محلية تمنح هذه السلطات للولايات. بعكس الساسة الأقوياء المتنازعين بآرائهم وبقوة شخصياتهم، كان واشنطن يتصرف بنجاح بوصفه "أبُ الأمة" الجديدة برغم هجوم خصوم كثيرين ضده: يتعالى على الخلافات والمطامح، ويحاول جمع المختلفين من أجل مصلحة عامة وعليا. كان زهده بالمنصب أمراً مهماً في صناعة سمعته. أمضى فترتين رئاسيتين وقرر المغادرة (كان يريد المغادرة بنهاية الفترة الأولى في 1792)، رغم أنه كان بمقدوره أن يحصل على فترة ثالثة بسهولة، ليضع عرفاً سياسياً باكتفاء أي رئيس بعده بفترتين رئاسيتين فقط، قبل تعديل الدستور في العام 1951 لتصبح الفترتان الرئاسيتان إلزاماً قانونياً ودستورياً، بعد تولي فرانكلين روزفيلت الرئاسة أربع مرات متتالية، بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، بين عامي 1933 و1945 حتى وفاته في الشهور الأخيرة للحرب.
في خطاب الوداع في سبتمبر 1796 الذي أعلن فيه واشنطن عزمه على التقاعد وعدم الترشح لفترة رئاسية ثالثة توقفَ الرجل على نحو مسهب عند الخطر المتنامي للحزبية: "إن إحدى ضرورات الحزب للحصول على النفوذ في مناطق معينة هي أن يشوه آراء وغايات المناطق الأخرى. لا تستطيعون أن تحصنوا أنفسكم بما يكفي ضد مشاعر الغيرة والحنق التي تنشأ من مثل هذه التشويهات. تجعل هذه التشويهات أولئك الذين ينبغي أن يكونوا مرتبطين بمشاعر الحب الأخوي، تجعلهم غرباء عن أحدهم الآخر…. لقد ذكرتُ لكم خطر الأحزاب في الولاية وأخص بالذكر تأسيسها على أساس الاختلافات الجغرافية. دعوني الآن أبدي رأياً أكثر شمولاً وأحذركم، بأشد الأساليب وقاراً، ضد التأثيرات المدمرة لروح الحزبية عموماً".
لم تمض الأشياء في أميركا على النحو الذي تمناه واشنطن، إذ نمت الأحزاب وقويت، وأصبحت أساسَ النشاط السياسي والشعور الوطني وصراع المصالح والأفكار في البلد الذي أخذ يكبر على امتداد القرن التاسع عشر والعشرين بانضمام المزيد من الولايات له ليصبح أرضاً شاسعة في امتدادها (بانضمام آخر ولايتين في 1959: ألاسكا وهاواي). تطورت الأحزاب السياسية سريعاً، وساعد نظام المجمع الانتخابي المنصوص عليه دستورياً في استبعاد الأحزاب الثالثة والثانوية. قانونياً وتقنياً، لا ينتخب الناخبون العاديون رئيسَ الجمهورية مباشرة، بل هم ينتخبون أعضاء المجمع الانتخابي البالغ عددهم حالياً 538، الذين يستطيع 270 منهم انتخاب الرئيس. لا تستطيع الأحزاب الصغيرة الوصول إلى هذا العدد، أو أكثر من نصف الأصوات المطلوبة من أعضاء المجمع الانتخابي. عنى هذا تدريجياً ترسيخَ سلطة حزبين كبيرين يستطيعان التنافس والفوز بالمنصب الأعلى في البلد.
لكن كيف يستطيع حزبان فقط التعبير عن آراء الناخبين في بلد شاسع ومتنوع كأميركا وتمثيلهم في المؤسسات الرسمية؟ يكمن الجوابُ في بنية الحزبين، فهي ليست بنية فوقية تعتمد على ما يقرره زعماء حزبيون في قمة الحزب، بل هي بنية تحتية تقوم على ما يقرره أعضاء الحزب العاديون أو الناخبون. هذا فارق جوهري وبالغ الأهمية عن طريقة عمل الأحزاب في الشرق الأوسط حيث يتمتع الزعماء الحزبيون بالكثير من النفوذ وسلطة القرار، بعكس الأمر في الأحزاب الأميركية. السبب في هذا الفارق هو الانتخابات التمهيدية التي يحتاج أي مرشح حزبي المرور بها كي يخوض انتخابات للفوز بمنصب عام راتبه يأتي من دافعي الضرائب (العمدة، حاكم الولاية، عضو الكونغرس، وصولاً إلى رئيس الجمهورية). فمثلاً، قبل أن يستطيع سياسي حزبي الترشح لخوض منافسة انتخابية للفوز بمقعد في الكونغرس أو في برلمان الولاية، عليه أن يخوض انتخابات تمهيدية أولاً في داخل الحزب للفوز بترشيح الحزب وبالتالي دعمه في التنافس الانتخابي على المنصب ضد مرشح الحزب الآخر الذي يمر أيضاً بتجربة شبيهة. يصوت في هذه الانتخابات التمهيدية أعضاءُ الحزب العاديون، وبحسب بعض الولايات، الناس العاديون من غير المنتمين للحزب. تخضع هذه الانتخابات التمهيدية، حالها حال الانتخابات الرسمية، لمراقبة السلطات الرسمية بينها القضاء، وتغطية الإعلام والمراقبين الانتخابيين.
منعت هذه المنظومة، التي تحيل القرارات الاساسية للاعضاء العاديين، رؤساءَ الأحزاب والمتنفذين فيها من السيطرة على هذه الأحزاب والتحكم بقراراتها لاختيار مرشحيها فضلاً عن تحديد الخط الأيديولوجي فيها والبرامج الانتخابية التي يقدمها المرشحون. لذلك تعكس هذه الأحزاب رغبات الجمهور، بعكس الأحزاب لدينا في الشرق الأوسط التي تعكس رغبات رؤسائها والمتنفذين فيها والممولين. لا تعرف الأغلبية الساحقة من الأميركيين أسماء رؤساء الحزبين الكبيرين، الديموقراطي والجمهوري، فدور هؤلاء الرؤساء تنظيمي عموماً وليس صانعاً للقرارات الحاسمة. مثل هذا التنظيم الشفاف للأحزاب هو الذي يساهم في جعلها خادمةً للمصلحة العامة وليست متطفلة عليها وكذلك في تصحيح أخطائها التي عادةً ما تقود إلى استبعادها من السلطة.