لم تفارق الحرب الروسية الأوكرانية التي تقترب من عام ونصف على بدايتها صدارة المشهد السياسي الدولي، ومازال ما يترتب عليها من نتائج مثار اهتمام دوائر صنع القرار في الغرب، بينما ينصب الاهتمام الرئيسي لمراكز الدراسات العسكرية شرقا وغربا على مسار العمليات في ميادين القتال.
دوائر صنع القرار في بعض الدول الكبرى تريد أن يطول أمد الحرب، ليس لاستنزاف الاقتصاد الروسي فقط، ولكن للوقوف على تأثير استخدام الأسلحة الجديدة التي لم تشهدها الحروب من قبل، أو التغير في استراتيجيات تشغيل أسلحة سابقة وتعديل مهامها، وهذا ما تعكف عليه بدأب مراكز الأبحاث في مجال إدارة النزاعات المسلحة مستقبلا، بسبب التحول الذي طرأ على أساليب وتكتيكات استخدام السلاح قديمه وحديثه.
فما هي أهم المتغيرات التي طرأت على المعارك في الحرب الروسية الأوكرانية؟
كانت الصواريخ الباليستية حتى سنوات قلائل سلاح ردع الدول الفقيرة غير القادرة على اقتناء الطائرات الحربية باهظة الثمن وتكاليف تشغيلها، لكن الروس الذين لا يعانون في سلاح الجو من مشكلات الدول الفقيرة لجأوا إلى إعادة توظيف الصواريخ الباليستية، باستخدامها في التمهيد النيراني عند بداية الحرب عوضا عن الطائرات القاذفة، وفى مراحل تالية استمر استخدام هذه الصواريخ بكثافة طوال فترة النزاع المسلح.
الفارق شاسع بين استخدام طائرات القوات الجوية والصواريخ الباليستية، حيث يستدعى استخدام الطائرات الحديثة قواعد جوية ذات إمكانيات متطورة، وأجهزة رادار، ونوعيات ذخائر مكلفة، وإعداد طيار يستغرق تدريبه عدة سنوات.
في المقابل لا يحتاج الصاروخ الباليستي إلى كل هذه التكلفة المالية واللوجستية، والأهم أنه يحدث نفس التأثير، والأكثر أهمية أن هذه الصواريخ أكثر دقة، وأقل في الرصد المبكر من الطائرات، وأقل تأثرا في المواجهة مع الأسلحة المضادة.
لقد استطاعت الدول الكبرى في مجال إنتاج الصواريخ الباليستية أن تحجم انتشار وتصنيع هذه الصواريخ، لكن هذا التضييق لم يعد ممكنا تطبيقه على إنتاج الطائرات المسيرة، نظرا لأن الدول الأقل تقدما من الدول الكبرى في صناعة السلاح تستطيع اقتحام تكنولوجيا صناعة وتطوير الطائرات المسيرة بالاعتماد على الذات، وإنتاجها على نطاق واسع، لتصبح سلاح ردع الفقراء الجديد محلى الصنع ذي الطابع الوطني.
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية الأهمية الفائقة للطائرات المسيرة التي استطاعت بعد بداية الحرب إرباك خطط موسكو وتمكين الأوكرانيين من تحجيم القدرات الروسية، وبينت هذه الحرب الأهمية القصوى لاستخدام الطائرات المسيرة في قصف الأهداف المعادية وفى عمليات الاستطلاع وتوجيه نيران المدفعية ومهام أخرى عديدة، وكان من نتائج هذه الحرب إعادة النظر لدى الدول الكبرى في تطوير منظومتها من الطائرات المسيرة.
لقد اضطر الغرب إلى الاستعانة بالمسيرات التركية لإمداد أوكرانيا بها، واستطاعت هذه المسيرات أن تحدث فرقا جوهريا في مراحل إدارة الصراع الأولى، ولأن الروس لم تكن المسيرات من اهتماماتهم الرئيسية اضطروا في مقابل هذا التغير بالغ التأثير إلى الاستعانة بمسيرات إيرانية، تغطى قصورهم في هذا المجال.
من بعد صارت الطائرات المسيرة السلاح الجديد الأكثر أهمية لكل المتطلبات العملياتية، ميدانيا في أوقات الحرب والسلم، فطائرة مسيرة زهيدة الثمن أصبحت تعوض بدرجة كبيرة الدور الذي تقوم به طائرة قاذفة مقاتلة تزيد قيمتها عن 100 مليون دولار، ونتيجة للأهمية التي أظهرتها المسيرات في مسار العمليات، اجتمع الرئيس الروسي بأقطاب الصناعة العسكرية في بلاده، وكلفهم بإعداد خطة تفصيلية دقيقة لتطوير صناعة المسيرات وتوفيرها بقدرات فائقة تزيد عن المسيرة "زالا لانسيت".
استخدمت روسيا على نطاق واسع الصواريخ الفرط صوتية التي مازال الغموض يكتنف طبيعة تصميمها تكنولوجيا، وتتمثل ميزتها بالغة الأهمية في صعوبة رصدها المؤثر من أنظمة الرادار، والمؤكد أن استخدام هذه الصواريخ الأسرع من الصوت بعدة مرات كشف للخبراء العسكريين في الولايات المتحدة والغرب عموما معلومات وافرة عن مدى دقتها، وقدرتها على حمل الرؤوس الحربية ذات القدرات التدميرية من المواد شديدة الانفجار، وأتاحت الفرصة حول التكهن بقدرة هذه الصواريخ على حمل رؤوس نووية.
اللافت في الحرب الدائرة أن القيادة العسكرية الروسية أحجمت عن استخدام قوات المظلات والقوات الخاصة طوال فترة الحرب، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه القوات كانت تستطيع حال إسقاطها خلف الخطوط أداء مهام حيوية خلال تطوير الهجوم الروسي، أو عرقلة الهجمات الأوكرانية المضادة، بالاستيلاء على الكباري وإعاقة التحرك على محاور التقدم.
لكن روسيا لجأت في تصرف مثير للدهشة إلى استخدام ميليشيا "فاغنر" عند إدارة معركة مدينة "باخموت" وإذا كانت طبيعة معارك المدن أنها شديدة التعقيد والصعوبة على قوات الجيوش النظامية، عندما يتلاحم أفراد طرفي الصراع، في الاشتباك من شارع لشارع ومن بيت لبيت، إلا أن تكليف ميليشيا مدججة بالسلاح من خارج الهيكل التنظيمي للقوات المسلحة أمر يثير من الأسئلة أكثر مما يطرح الإجابات.
لأول مرة في تاريخ الحروب تلعب الأقمار الصناعية مثل هذا الدور الرئيسي في إدارة الصراع، إذ بدأ الغرب في تغطية مناطق الحدود الروسية الأوكرانية تدريجيا مع تزايد التجميع الروسي للقوات قبل بدء العمليات، وبعد اشتعال الحرب شهدت سماء مسرح العمليات حشدا غير مسبوق، بلغ قرابة 500 قمر صناعي، من دول متعددة، واستطاعت الدول الحليفة لأوكرانيا تقديم معلومات بالغة التأثير عن أوضاع القوات الروسية، وكثافة قواتها على محاور التقدم، والاحتياطيات القريبة وفى العمق، كما ساهمت أقمار الدول الحليفة في اختراق وسائل الاتصالات الروسية، وأداء مهام الحرب الإلكترونية، تسبب تأثير الأقمار في هذه المجالات في مشكلات جمة للجيش الروسي، الذى استطاع بعد فترة اتخاذ الإجراءات الحمائية، وكشف تزايد دور الأقمار الصناعية في الحرب بين موسكو وكييف عن تصاعد احتمالات أن يصبح الفضاء مسرحا لحروب من نوع جديد في المستقبل.