من الصعب التقليل من أهمية قرار مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني خفض التصنيف السيادي للولايات المتحدة من أعلى رتبة، أي الممتاز، إلى الرتبة التالية.
حتى على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها خفض تصنيف دين أميركا السيادي، فقد سبق وخفضت مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد أند بورز تصنيفها لولايات المتحدة بالقدر نفسه في عام 2011.
ولم يبق من مؤسسات التصنيف العالمية الكبرى سوى مؤسسة موديز التي ما زالت تمنح واشنطن أعلى رتبة تصنيف.
إلا أن الأسواق والمستثمرين في أوراق الدين من سندات خزانة وغيرها، من صناديق وأفراد، لم يتأثروا كثيرا بقرار فيتش. بل على العكس، اقبل المستثمرون على شراء سندات الخزانة الأميركية أكثر من الأسهم في الساعات التي تلت صدور قرار التخفيض.
معروف أن اهمية التصنيف الائتماني الذي يصدر عن الشركات الثلاث الكبرى في العالم، سواء التصنيف السيادي للدول ودينها العام أو للشركات والأعمال الخاضعة للتصنيف، تأتي من أن الأسواق والمستثمرين يعتمدون ذلك التصنيف في قرار اقراض الدول والشركات. ويعني خفض التصنيف الائتماني زيادة احتمالات عدم قدرة الدولة او الشركة المعنية على الوفاء بالتزاماتها تجاه الديون، أي تسديد فوائدها وأقساطها أو قيمة السند (اصل الدين) في موعد استحقاقه.
قبل اثني عشر عاما، خفضت ستاندرد أند بورز تصنيف أميركا السيادي حين تعقدت المشكلة السنوية بشأن رفع سقف الاقتراض من قبل الكونغرس بما يمكن الحكومة الفدرالية من سد العجز بالاقتراض من السوق في الأغلب عبر اصدار سندات خزانة. ويحتاج البيت الأبيض إلى موافقة الكونغرس إذا كانت حاجة الكومة لسد العجز وتميول الانفاق الفيدرالي ستعني الاقتراض أعلى من سقف معين. ورغم ذلمك الخفض في 2011، إلا أن الحكومة الأميركية ظلت تقترض وترفع سقف الدين باستمرار حتىتجاوز 24 تريليون دولار.
والواضح حتى الآن من رد فقعل السوق أن ها ما سيحدث أيضا بعد قرار فيتش هذا الأسبوع. فلماذا إذا يختلف الأمر مع الولايات المتحدة عن بقية حكومات وشركات العالم؟ هل لأنها تملك أكبر اقتصاد في العالم، أم لأنها تفرض على العالم أن يقرضها حتى مع خفض تصنيفها؟
لا هذا ولا ذاك، إنما هي ثقة الأسواق والصناديق والمستثمرين حول العالم في مرونة الاقتصاد الأميركي وقدرته على امتصاص الصدمات. ولهذا السبب نجد سندات الخزانة الأميركية جزء مهم من المحفظة الاستثمارية لأغلب الصناديق ولدى المستثمرين والممولين حول العالم. فالعالم كله تقريبا حريص على وضع مدخارته في الاقتصاد الأميركي، واحد اسلبل هو اقراض الحكومة الأميركية بشراء سندات الخزانة. ويعتبر الكثيرون تلك السندات بمثابة "ملاذ آمن" لثرواتهم نتيجة الثقة في ان اميركا لن تتخلف عن السداد (أي تعلن افلاسها)، بالاضافة طبعا للعائد الثابت على السندات حسب نسبة ذلك العائد عند الشراء (وهو مايسمى في ميزانيات الحكومات "خدمة الدين"). لذا فالولايات المتحدة هي المقترض الأكبر في العالم، ليس فقط لأنها تنفق أكثر مما تولد من دخل ولكن ايضا لأن العالم حريص على اقراضها.
يبدو ذلك الوضع مستمر، على الأقل في المدى المظور. ولعل السواق اعتبرت خفض التصنيف الائتماني للدين السيادي الأميركي هذا الأسبوع مستندا إلى أوضاع سياسية أكثر منها مالية واقتصادية. فالمؤشرات الكلية للاقتصاد جيدة، وحتى احتمال الركود هذا العام لم يعد قويا كما كان مطلع العام. فعلت فيتش ما فعلت اذا بسبب التخوف من استمرار اسلاتقطاب السياسي بين الديموقراطيين في البيت الأبيض والجمهوريين في الكونغرس على اعتبار أن ذلك يضر بالأفق المستقبلية للسلامة المالية للبلاد. وكان ذلك ايضا أحد اسباب قرار ستاندرد أند بورز قبل أكثر من عقد من الزمن.
وهكذا، رايى المستثمرون أن قرار تصنيف ائتماني مستند لعوامل سياسية لا يعني أي تخوف من سلامة الوضع المالي أو ينال من قدرة أميركا على الوفاء بالتزامتها تجاه دائنيها. فاستمر هؤلاء في اقراض المقترض الأكبر، وربما بوتيرة أعلى. وهناك ةميزة مهمة في الولايات المتحدة وهي ان الاقتراض غالبا ما يكون بهدف الاستثمار في القطاعات المختلفة أو دعم البني التحيتة اللازمة للنشاط الاقتصادي. وبالتالي ينعكس ذلك في استمرار النمو قوة الاقتصاد عموما.
لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة، مثل غيرها من بقية دول العالم متقدمة أو نامية، تواجه احتمال أزمة مديونية. فالأرجح أن العالم كله يواده أزمة دين، خاصة مع الزيادة الهائلة في حجم الدين العام للحكومات واتساع عجز الميزانيات وأيضا ارتفاع ديون الشركات والأعمال. ويرى البعض أن هناك بالفعل في النظام المالي العالمي "فقاعة دين" يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
قد يضيف المرء أن هذا الغليان في الائتتمان والاقتراض يحتاج فعلا للانفجار، ليس لحل أزمة دين ولو بألم دامي للمقرضين والممولين وإنما لحل مشاكل بنيوية في النظام المالي العالمي ككل. فهناك حاجة فعلا لتبخر بضع عشرات التريليوينات من النظام ي يعود للعمل بطريقة اقرب للمعتادة أو الطبيعية. ومن شأن انفجار أزمة دين عالمية أن تساعد في هذا "التبخير" لتريليونات الدولارات. وإلى أن يحدث ذلك، غن حدث، سيظل العالم يقرض المقترض الأكبر وتزيد أميركا ديونها.