مراكز الأبحاث الغربية تراقب النشاطات العسكرية والاقتصادية الصينية عن كثب بهدف معرفة الخطط المتعلقة بتايوان وإن كانت الصين تخطط لغزوها على الأمد القريب.

أي غزو صيني للجزيرة المستقلة فعليا، سوف يؤدي إلى تدهور خطير في العلاقات الصينية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وباقي الدول الغربية، بما فيها بريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وإلى فرض عقوبات اقتصادية صارمة على الصين.

لذلك فإن الصين تحتاج لأن تستعد لهذا الاحتمال، استعدادا كاملا، وتخطط لسنوات عديدة، وتتوقع أسوأ الاحتمالات، كي تكون قادرة فعلا على الإقدام على عمل بهذا الحجم، دون أن تتضرر أو تفشل في مسعاها، كما حصل لروسيا أثناء حربها مع أوكرانيا، عندما توهمت بأن الغرب سوف يكتفي بالاحتجاج، كما فعل مع غزوها جورجيا عام 2008، واحتلالها شبه جزيرة القرم عام 2014.

ويقدر مراقبون بأن الصين ترى في التعامل الغربي مع روسيا درسا لها، بل إن الغربيين، والأميركيين تحديدا، بتشددهم مع روسيا، أرادوا أن يوصلوا رسالة إلى الصين، مفادها أن أي غزو لتايوان لن يمر دون عواقب وخيمة، وأن المواجهة العسكرية مع تايوان لن تكون سهلةً على الصين.

كما أن تايوان قد بدأت منذ فترة ليست قصيرة، تستعد لمواجهة احتمالات الغزو الصيني لها، ومن علامات الاستعداد زيادة التسلح للدفاع عن نفسها، وقيام أكبر شركة تايوانية مصنعة للموصلات، (TSMC)، بتوسيع استثماراتها عالميا، وإنشاء مصانع عملاقة في الولايات المتحدة واليابان، رغم أنها تنفي أن يكون التوسع خارج تايوان بسبب الخشية من الغزو الصيني.

ويعتقد مراقبون بأن الغزو الصيني لتايوان، إن كان سيحصل، فإنه لن يحصل قريبا، رغم أن القيادة الصينية حددت موعدا أقصى "لتوحيد الصين"، أي ضم تايوان لها، وهو بحلول عام 2027، وهو العام الذي تنتهي فيه الولاية الثالثة للرئيس الصيني، شي جينبينغ.

بشكل عام، لا يمكن اعتماد التصريحات الرسمية كمؤشر على وجود خطط استراتيجية محددة، خصوصا تلك المتعلقة بالحرب، فهذه تكون سرية في العادة، خصوصا في الدول غير الديمقراطية التي لا تحتاج إلى موافقات من برلماناتها، أو التي توجد فيها معارضات قوية. لذلك، لابد من مراقبة النشاطات الاقتصادية للصين التي تهدف لإعداد البلاد لمثل هذه العملية الكبيرة، التي ستجلب عليها عقوباتٍ غربيةً واسعة النطاق.

الصين تجري مناورات واستعدادات عسكرية علنية ودورية في مضيق تايوان، لكن هذه المناورات لا يمكن اعتبارها خططا حقيقية مُعَدَّة للتنفيذ، لأنها قد لا تكون كذلك، وإنما لإيصال رسائل معينة لدول أخرى، ولأغراض مختلفة، أو للحصول على تنازلات من دول معينة، أو قد تكون فرضيات عسكرية مطلوبة، والتي تجريها دول عديدة لإبقاء جيوشها مستعدة للاحتمالات الطارئة. لكنها في الوقت نفسه، قد تكون استعدادات حقيقية، لأنه لا يمكن القيام بعمل عسكري دون استعدادات وتدريبات عسكرية على الأرض، تهيِّئ القوات المسلحة للهجمات العسكرية الحقيقية.

لكن الاستعدادات العسكرية تحتاج أيضا إلى استعدادات أخرى، أكثر أهمية، ألا وهي الاقتصادية، وأولاها توفير الغذاء وإمدادات الأسلحة وباقي المواد الضرورية لاستمرار النشاط الاقتصادي. هناك مليار ونصف إنسان في الصين، ولابد للحكومة أن تضمن توفر المواد الأساسية لعام واحد على الأقل. الصين مهتمة بهذا الأمر حتى في أوقات السلم، فهناك كميات كبيرة من الحبوب والمواد الضرورية الأخرى كاللحوم، تكفي لعام ونصف على الأقل، وإن أرادت أن تدخل في صراع خطير، فإنها سوف تراكم المواد الغذائية لفترة أطول، فإن فعلت فإن هذا مؤشر على وجود خطط استثنائية.

التحدي الذي تواجهه مراكز الأبحاث الغربية، بل وأجهزة المخابرات، هو كيفية رصد التغيرات في أنماط الاستيراد الصينية التي تتعرف من خلالها إن كانت لدى الصين خطط استثنائية لتحصين اقتصادها ضد العقوبات المحتملة. فالصين لا تعلن عن كل خططها ومشاريعها، خصوصا المتعلقة بالقضايا الاستراتيجية.

 المتغيرات التي يجب أن يراقبها الغربيون، هي على سبيل المثال حجم الطاقة المستوردة، فالصين تستورد 75% من احتياجاتها من النفط، حسب مجلة الإيكونوميست، فإنْ لوحظ استيرادٌ كثيف يفوق المعتاد بنسب عالية، دون وجود مبرر واضح، فإن ذلك يشكل دلالة على أنها تحضِّر نفسها للاستغناء عن استيراد الطاقة لفترة طويلة. لكن واردات الصين من النفط انخفضت خلال عامي 2021 و2022 عما كانت عليه عام 2020. حسب بيانات هيئة الجمارك الصينية، التي نشرتها رويترز في يناير الماضي.

لكن ارتفاع استيراد الطاقة وحده، ليس كافيا، فالدول، خصوصا الكبرى، تحترس تحسبا لاحتمالات الطوارئ، خصوصا عند توقع حصول أزمات دولية، تؤثر على إنتاج الطاقة أو نقلها. الولايات المتحدة، مثلا، لديها خزين استراتيجي من النفط، وهو 714 مليون برميل، حسب بيانات وزارة الطاقة، وهي تستخدمه عند الحاجة، وهو يكفي لسد حاجتها لمدة ثلاثة أشهر.

 وهناك أيضا الخزين الاحتياطي لمنظمة الطاقة الدولية، التي تضم 31 عضوا، والذي يستخدم أحيانا للتأثير في أسعار النفط، إذ أطلقت المنظمة 60 مليون برميل عام 2011 أثناء تعثر تصدير النفط الليبي. كما لجأت الهند لمثل هذا الإجراء، واستأجرت خزانات أمريكية لخزن النفط، حسب مجلة تقنيات النفط (JPT)، وقد سبقتها أستراليا أيضا لتأجير الخزانات الأمريكية لخزن النفط للاستخدام في الحالات الطارئة. ولا توجد دولة راسخة لا تحترس من الطوارئ، سوى الدول المصدرة للطاقة، التي تمتلك خزينا كبيرا معدا للتصدير.

فإن لوحظ استيراد استثنائي للنفط لدى الصين فإن هذا قد يوحي بأن الصين تستعد لأمر ما، والذي يُفَسَّر بأنه استعداد للاكتفاء الذاتي من الطاقة لفترة طويلة. واردات الصين من النفط كانت تتصاعد حتى عام 2021، وكذلك قدرتها على تخزين النفط.

في السابق، كانت الصين تكتفي بخزين احتياطي يسد حاجتها لثلاثة أشهر، لكنها الآن توسِّع قدراتها الخزنية للنفط، حسب مجلة الإيكونوميست، بإنشاء كهوف محصنة تحت الأرض، تكون مؤمنة وغير مكشوفة للرصد المخابراتي أو البحثي. قد يكون هذا مؤشِرا على وجود إجراءات احترازية لصراع محتمل، لكنه قد يكون أمرا طبيعيا يفرضه تذبذب أسواق الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا.

واردات الصين من الغاز تصاعدت بشكل مثير، وحسب تقرير أعده الخبيران في مجال الطاقة، ستيفن مايلز وغابرائيل كولنز، ونشرته مجلة فورين بوليسي في 12 يونيو الماضي، فإن عشرين شركة صينية استوردت 91% من الغاز السائل المتاح عالميا، قبل ستة أشهر من الغزو الروسي لأوكرانيا، ضمن صفقات طويلة الأمد، وأن تسعا من هذه الشركات لم يسبق لها شراء الغاز من قبل، الأمر الذي أثار استغراب مايلز وكولينز، إذ اعتبراه دليلا على تواطؤ الصين مع روسيا في غزو أوكرانيا، لكنه ربما يكون استشرافا صينيا للأحداث. ويرى مراقبون أنه ربما يشكل إشارة على استعداد صيني لصراع مقبل. 

وفيما يتعلق بالمواد الغذائية، فإن الصين من أكثر الدول حرصا على توفير احتياطي غذائي كاف لعام ونصف. وخلال العقد المنصرم وحده، ارتفع مخزون الذرة، مثلا، من 50 مليون طُن عام 2010، إلى 250 مليون طن عام 2015، ومازال يفوق 200 مليون طن حاليا، بينما ارتفع مخزون القمح من 50 مليون طُن عام 2010، إلى ما يقارب 150 مليون طُن حاليا، وفق بيانات وزارة الزراعة الأمريكية. ورغم أن التوسع في استيراد الغذاء وخزنه ينسجم مع التقليد الصيني بتأمين الغذاء، لكن ارتفاع واردات الصين من فول الصويا، الذي يُستخدَم في العلف الحيواني، ربما يشير إلى الاستعداد لصراع ما، إن لم يكن مصحوبا بارتفاع في المنتجات الحيوانية، كما يرى الخبير الزراعي، والضابط السابق في الجيش الأمريكي، غوستاف فريرا، الذي أوردته مجلة الإيكونوميست.      

 الأمر الآخر الذي يشير إلى وجود إجراءات استثنائية، هو الاستيراد المكثف للمعادن المهمة صناعيا، أو إيقاف تصدير معادن الأرض النادرة التي تهيمن الصين على إنتاجها وصناعتها وتصديرها. وقد فرضت السلطات الصينية قيودا على تصدير معدنيْ الغاليوم والجيرمانيوم، اللذين يدخلان في صناعة الموصلات. لكن هذه القيود هي على الأرجح رد على فرض الولايات المتحدة قيودا على تصدير الموصلات المتطورة إلى الصين، وليس دليلا على الاستعداد للدخول في صراع.

الصين تستورد معادن البلاتين والبريليوم والنيوبيوم والبلاديوم، التي تستخدم في صناعة الأسلحة والمكائن. فإن ارتفع استيرادها من هذه المعادن بشكل استثنائي، فإن الغربين قد يعتبرونه دليلا على وجود خطط تتعلق باحتمالات الصراع.

لكن الصين مازالت تستخدم النظام المالي الغربي، رغم أنها تتوجه منذ فترة لتشجيع الدفع بالعملة الصينية، كما أن لديها استثمارات واسعة في الولايات المتحدة والعالم الغربي عموما، وإن هي قررت أن تغزو تايوان فإن هذه الاستثمارات والأموال سوف تُجَمَّد، وهذا ما لا تخاطر به الصين. كذلك توجد استثمارات غربية وتايوانية هائلة في الصين، وهذه الاستثمارات سوف تغادر فور حصول أي إشارة على اعتزام الصين غزو تايوان. ومن هنا فإن الصين ستكون حذرة في تعاملها مع هذا الأمر.

تعمل المراصد الغربية التي تراقب الصين، سواء كانت بحثية أو مخابراتية، على توفير المعلومات للحكومات والمستثمرين لرفع الوعي باحتمالات المستقبل، وإيجاد الحلول للمشاكل قبل حدوثها. لا شك أن الصين تعلَّمت الدرس الأوكراني جيدا، ولا يمكنها أن تقْدِم على عمل خطير يمكن أن يحبط خططها التنموية المستقبلية. لكن الضغوط الغربية المتواصلة، خصوصا الأمريكية، قد تجعلها تلجأ إلى إجراءات استثنائية، أو على الأقل تدرسها جيدا وتستعد لكل الاحتمالات.

إعلان الولايات المتحدة الأخير بتزويد تايوان بأسلحة متطورة من مخازن الجيش الأمريكي، كما فعلت مع أوكرانيا، إشارة واضحة بأن المحاولات الأخيرة لتطوير العلاقات مع الصين، والتي تضمنت زيارات لبكين قام بها وزيرا الخارجية والدفاع، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، والمبعوث الأمريكي حول المناخ، جون كيري، لم تكن ناجحة، وأن الأمريكيين لم يقتنعوا بأن الصين لا تعتزم غزو تايوان، وأنهم مصممون على حماية تايوان بكل السبل، بما في ذلك العسكرية.

هل يقنع هذا الإجراء الأمريكي القيادة الصينية بأن تراجع خططها حول تايوان؟ أم أنه سيستفزها لاتخاذ إجراءات جديدة للمضي في طريق توحيد الصين؟ الواضح من أحداث الماضي القريب أن القيادة الصينية لن تخضع للتهديدات، ولن تتخلى عن ضم تايوان، لكنها في الوقت نفسه، لن تخاطر بمستقبل الصين الاقتصادي، وتدخل العالم في أزمة جديدة، من أجل قضية لم تُحسم منذ قيام الصين الشعبية عام 1949.

ستكتفي الصين على الأرجح بمواصلة الفرضيات العسكرية حول تايوان، على الأقل كي لا تبدو ضعيفة أمام شعبها ودول العالم الأخرى، وسوف تنتظر الظرف المناسب الذي يسمح بتحقيق هذا الهدف، الذي يبدو أنه هدف معنوي وسياسي، لكن تحقيقه غير مضمون، وإن أقدمت عليه الصين فسوف يلحق بها أضرارا اقتصادية وسياسية واسعة النطاق.