المثير للفضول حقّاً هو أن نعامل مبدأ "السَّمّ" حرفيّاً، في معزلٍ عن هويّته الغيبيّة، عندما نتجاهل ازدواجيته.
فالسَّمّ كَحرفٍ هو جزيئة، نواة، في حجمٍ مصغّر، شفرة خبيئة، خاملة كجرثومة، بمفعولٍ فتّاك، لا يقارن إلّا بالنواة الجينيّة، التي أبدعت السلاح النووي، في بُعده ككفاءة لإنتاج القيامة. أي أنه فايروس كامنٌ، مميت، كما عالجناه في طينته المدمّرة في صيغة الإبرة، القرينة في تفاهتها بالشعرة، ولكن الفحص كشف لنا خطورته المخفيّة، عند استعماله كطاقة كامنة، ليستعير ماهيّة مذهلة، هي كل ما متّ بصلة لمارد المردة، المدعوّ: تقنية (!) ليبرهن كم هو سُمٌّ (برفع السين) عند رصدنا لمواهبه في واقعنا الحرفيّ، دون أن يتخلّى عن نيّته الخبيثة كورم وجود. والواقع أنه لا يتجلّى تجلّياً حقّاً في تنفيذ مكيدته التجريبية، إلّا عندما يتخلّى عن قناع الحرف، ليرتدي طاقيّة الإخفاء، فلا يكتفي بافتراس بدن الواقع، ولكنه يسري ورماً سرطانياً في الوجدان. فالسَّمّ، في صيغة المعدن، يتآمر على الواقع، من حيث يتظاهر بتغذية الواقع. ولذا فهو أفيون هذا الواقع. ولكنه في صيغة السُمّ (برفع السين)، فهو يحتال هنا ليسمّم الواقع، أي ليصيب روح الواقع. ولذا حقّ له أن يتباهى باعتناق دين مميت هو: السُّمّ؛ ممّا يعني أنّ تستّره في صيغة السَّمّ (بفتح السين) ما هو ألّا حيلة للاستيلاء على بُعدٍ آخر في رسالته الجهنّمية، استكمالاً لفصول مؤامرته على الوجود، لأنه يقوّض الجسد أيضاً، إلى جانب اختلاس الروح.
فبقدر ما يبدو السَّمّ، في صيغته كأداة خياط، بريئاً، بل خدوماً، بقدر ما ينقلب ثعباناً ماكراً عندما يتعلّق الأمر برسالته كآفةٍ لها القدرة على الإطاحة بعرش جليل هو: الضمير.
ومُكر هذا الضيف في ارتدائه مسوح الطّيف، بدليل مواهبه في التحرر من كل ما متّ بصلة لجناب الحسّ كمادّة آلت على نفسها ألّا تنفّذ حكماً بإعدام، ما لم يكن دسيسةً مخفيّةً في حرف تمويهٍ، صالحة للاستخدام كقناع، كالطعوم، أو السوائل، أو ما شابه. ويبقى السؤال الآن هو: هل استطاع السَّمّ، بجناحَيه الحرفيّ أو المجازي، أن يحقق لنا التغيير، بحيث نستمرئ تغيير ما بأنفسنا، لكي نتمكّن من تغيير ما بواقعنا، كخطوة لتحرير ما بواقعنا، بعد تضحياتنا بقبول التنازل عن إرادتنا، توقاً لاستكمال بنود سعادتنا؟
فالرهان كان وسيبقى على استقلالية اتّخاذ القرار، أي على ما انتدبناه في تجربتنا قدس أقداس، وهو: حرية الإرادة. وسلب السَّم لهذا الامتياز هو التحدّي الذي يواجهنا، والتساهل في شأنه هو ما لا نملك الحقّ في أن نغتفره لأنفسنا. وليت الداهية، المحتجب خلف قناع التقنية، يكتفي بحرماننا من هذه الغنيمة، ولكنه يأبَى إلّا أن يختلس منّا نعيماً أعظم شأناً من الغنيمة، وهو القدرة على فحص حقل الواقع، باعتناق الموقف النقدي من كينونتنا، لتبديد وَهم السلعة المجانية المغشوشة، التي نتلقّاها من بعبع تقنية المعلومة، لتكون في نشاطنا بديلاً لما يسكننا، لما يتغلغل فينا، لما يتململ، ولا يكفّ عن التّململ، لكي يلهمنا غنائم حدسٍ تحيا مجهولاً فينا، ولا تتحوّل طاقةً تنتج نبوءةً إلّا في نزيف الروح، الذي لا يستوي قيمةً، مترجمةً في حرف حكمةٍ، ما لم يبعث نفسه في جحيم وجعٍ، هو بكل المقاييس مِيتة! ميّتة لسببٍ بسيط، وهو أن فاكهة الفكر لا تنضج، ولا تهبنا نفسها، ما لم تخضع لتجربة اغتراب غيبيّ، يلفظ فيها الميلاد بالجسد أنفاس نزعٍ أخير، لأن الميلاد بالروح، وتحقيق البعث في فردوس الميلاد الثاني، رهين التضحية بما كان رأسمال في صفقة وجودنا الطبيعي.
ليس فكراً، ذلك الفكر، الذي لا يحقق لنا بعثاً؛ لأننا، بميلادنا بالروح، نحيا، أمّا ميلادنا بالطبيعة فنغترب!
والدليل أننا، بالفكر فقط نحن أحرار، أمّا بالطبيعة، فنحن سجناء.