إذا ذكرت الماركسية العلمية عند العرب فإنها لن تتجاوز الحضرمي الذي يشار إليه بأنه رسول الشيوعيين العرب، فلا أحد امتلك خصائص الفكرة وآمن بها كما كانت في عقيدة عبد الله باذيب؛ فهذه الشخصية لعبت دورًا رياديًا لم يزاحم به رواد الفكر العربي في مصر وبلاد الشام والعراق فحسب بل إنه تجاوزهم بكثير من المحطات حتى أن تأثيرات أفكاره ظهرت في أجزاء واسعة من المنطقة العربية.

الأثر والتأثير سمة من سمات الشخصيات الحضرمية حتى عندما كانت حركات التحرر الوطني تتوسع نطاقاتها من نهاية الحرب العالمية الثانية للخلاص من الاستعمار الأجنبي.

قدم عبد الله باذيب جملة أفكاره عبر مقالات صحفية واكبت تحولات ما بعد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 وحملت تلك الأفكار رؤية واضحة بأن لا يمكن للعرب أن يواجهوا قوى الاستعمار والرجعية من دون إيديولوجية مضادة تكون قادرة على دفع المجتمعات للمقاومة واستبدال تلكم القوى بقوى وطنية تلتزم بعهد جامع على الوحدة العربية وتذويب المجتمعات في قالب القومية الخالصة، فلذلك تبنى باذيب الماركسية العلمية وقدم نظرياته على ضوئها وكان من الطبيعي أن يكون أحد روافد الحركة الوطنية في جنوب اليمن مواكباً للجبهة القومية التي تبنت الكفاح المسلح الذي انتهى بإعلان قيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الثلاثين من نوفمبر 1967.

خمسينيات وستينيات القرن العشرين خاضت عدن مخاضات متعددة تتدافع فيها التيارات السياسية والفكرية غير أن كافة التوجهات دفعت ناحية الاستقلال وتوحيد سلطنات ومشيخات الجنوب في إطار سياسي من المهرة إلى باب المندب، التقدميون كانوا أكثر التيارات اندفاعاً نظراً للدعم المصري وهو ما رجح كفة الجبهة القومية التي تسلمت البلاد وأنجزت المهمة بجلاء آخر جندي بريطاني مما ألهم الشعوب العربية خاصة وأن جلاء الاستعمار فتح الباب الواسع لكل البلدان الخليجية لتعلن استقلالها الوطني.

شكل عبد الله باذيب حالة فكرية متقدمة تضمنت الحرية والوحدة القومية والاشتراكية.. كانت رؤية باذيب ترى في أن الرجعية خطر على المجتمعات فهي توظف الخطاب الديني لتمرر الأجندات السياسية بما فيها التوسعية، من الواضح أن تراتبية أفكاره تحصنت وراء أسوار حماية المجتمع من تسلل مبادئ الإسلام السياسي، فكان يرى أن لا حلول لمواجهة زحف الرجعيين بغير تجسيد الاشتراكية وتحقيق العدالة والمساواة فهذه المعادلة كانت نطاق معاركه التي أثمرت فيما بعد استقلال اليمن الجنوبي وقيام الحركة التصحيحية في 1969.

ما أن بلغ باذيب منصباً وزارياً في حكومة اليمن الجنوبية حتى ترجّم جزءاً من أفكاره في وزارتي التربية والثقافة الآتي شغلهما بين (1969 و1972) فلقد ألحق المدارس الخاصة بالحكومية لتحظى بنصيبها من التعليم المجاني الذي تقدمه الدولة، كما دشن محو الأميّة للكبار وهو ما أثمر في الثمانينيات الميلادية بتصنيف الأمم المتحدة لليمن الجنوبي بالبلد العربي الذي قضى على الأميّة بين السكان، عند هذه المرحلة يمكن النظر إلى أن باذيب ترجم أفكاره التي امتزجت من مبادئ الثورة الفرنسية والتجربة الاشتراكية الصينية ومونتسكيو وفولتير بالإضافة لمورثاته التقليدية الدينية التي نشأ فيها في حضرموت.

الحضرمي اليساري عبد الله باذيب تقدم خطوة عن غيره من اليساريين العرب لأنه انطلق من مفهوم قناعاته ورؤيته ولم يكن كعموم التيار اليساري العربي ساخطا أو ناقما يعيش على ردة الأفعال، باذيب حالة مختلفة لذلك كان له حضور مختلف وأثر أوسع من محيطه ونطاق جغرافيته في جنوب شبه الجزيرة العربية، ولا يمكن تغييب باذيب حتى وإن تعاقبت العقود والأزمنة على رحيله فلقد ثبتت نظريته ورؤيته الصحيحة فلقد تفشت الرجعية على صهوة ما سميّ بالصحوة الإسلامية وغرق العرب في وحل صراعات كانوا في غنى عنها لو أنهم انتهجوا التنوير ومنحوا العقل العربي مساحة للتفكير غير أنهم أي العرب طبعاً اعتمدوا النقل وعطلوا العقل.

عبد الله باذيب لا يمكن تأطيره في إطار محدد فلقد كان تقدمياً تنويرياً وكاتباً بارعاً ظل محوراً في الفكر القومي، وسيبقى حاضراً كلما ذكرت القومية والاشتراكية والتقدمية وكلما ذكر الحضرمي الذي لا يحبه المتأسلمون الباغضين للعقل والمغمضين أعينهم عن النور والحقيقة.