يفكّر كلٌّ منّا في حريّته؛ في مقدار ما يشعر بأنّه يَحْتازُهُ منها؛ في الحدود التي يشعر أنّها كابحةٌ لها؛ في كيف يفِرّ بذلك الشّعور الحارِّ بها من ضغوط الإكراهات الخارجيّة عليه... إلخ.
تزيد حدّةُ الهجْس بالحريّة كلّما ضاقت على المرء فرصُ الشّعور بها في يوميّات الحياة، لذلك يختلف أمْرُ ذلك الهجْس من إنسانٍ لآخر، ومن حالةٍ لأخرى تبعاً لوضعيّات النّاس وشروط وجودهم. هكذا لا تعني الحريّة عند السّجين المعنى عينَه عند الطّليق، ولا تعني عند المرأة - في مجتمعٍ ذكوريّ تقليديّ محافظ - ما تعنيه عند الرّجل، تماماً مثلما لم تكن لِتَعْنِيَ، طَوال التّاريخ، المعنى عينَه لدى كلٍّ من العبيد والأحرار. غير أنّ أيّاً من هؤلاء جميعاً - وعلى اختلافٍ بينهم في أنماط التّفاعل مع سؤال الحريّة في وعيهم - ليس يشُذّ عن قاعدة الانْسِكان بسؤال الحريّة في الوعي وطُولِ معاشرته.
الحريّةُ في حيِّزها هذا لصيقةُ الصّلّة بـ"الذّات": ذات الفرد، والاهتمامُ بها يَتناول ما يتعلّق بعلاقتيْ الحضورِ والغياب المشعور بهما في ذاتيّة المرء، في عالمه الجوّانيّ، بمعزلٍ عن أيّ علاقاتٍ أخرى تقع خارج تلك الذّات. لذلك كانتِ الحريّة - في هذا الوجْه الأوّليّ والمباشر منها - تجربةً حياتيّة أكثر ممّا هي مسألة وعيٍ وإدراكٍ أو تَسْآلٍ؛ حيث الحكم عليها، حضوراً أو غياباً امتلاكاً أو حرماناً، مرجعُه إلى الشّعور بها، في المقام الأوّل، أو إلى عدمه. الذّات، إذن، هي عينُها المعيارُ الذي تقاسُ به الحريّة؛ إذْ هي نفسُها الشّعورُ وهي نفسُها مَوْطنُ التّجربة. وحين يقع تحويلُ الحريّة إلى موضوعٍ للوعي في جنسٍ من التّأليف مثل الأدب، يتعسّر الفصْلُ بين الموضوع هذا والذّات بما هي التّجسيدُ الماديُّ له: حضوراً وغياباً. وهكذا قد يتناول نصٌّ روائيّ موضوعةَ الحريّة ممثَّلَةً في أزمتها من خلال حالةِ موقوفٍ سجين، أو حالة مرتهنِ الإرادة لغيره، أو حالة امرأةٍ محجوبةٍ عن العالم بأستار التّقاليد... إلخ. وفي هذه الأحوال من فقدان الحريّة ينمو في الثّنايا معنًى/ مَعَان للحريّة تعبّر عنها الذّواتُ وتجاربُها المتباينة، من غير أن يكون في حكم الإمكان أن نشتقّ منها جميعِها تعريفاً لماهية الحريّة.
الفلسفةُ وحدها تجرّد معنى الحريّة حين ترتفع به من المشخَّص الملموس لتعبّر عنه تعبيراً مفهوميّاً، أي نظريّاً مجرّداً. قد لا يكون المعنى الذّهنيّ للحريّة، الذي يحمله المتفكِّر فيها في فكره، هو عينُه معناها الواقعيّ المتعيِّن، المعبِّر عن نفسه في تجارب ذواتٍ بعينها (بل إنّهما - قطعاً - يتباينان)، ولكن ما من سبيلٍ أخرى إلى بناء الحريّة في الوعي كمفهوم إلاّ من خلال تجريدها والنّظر إليها في ما يُجاوِز المتبايِن والمتعدِّد والخاصّ أو الخصوصيّ. وهذا دَيْدَن النّظرِ الفلسفيّ إلى الظّواهر الإنسانيّة والطّبيعيّة جميعِها. غير أنّ للفلسفة طريقتيْن مختلفتين في النّظر إلى مسألة الحريّة لا تَقْبلان الجَمْع بينهما: طريقة النّظر الفلسفيّ الميتافيزيقيّ، وطريقة النّظر الفلسفيّ السّياسيّ؛ وقد تزامنتَا، منذ وقتٍ مبكّر من تاريخ التّفلسف، من غير أن تفيد الواحدةُ منهما من الأخرى.
فأمّا التّفكير الفلسفيّ الميتافيزيقيّ في الحريّة فمبناهُ على هاجس البحث عن ماهية الحريّة؛ عمّا يؤسِّس لها في الذّهن معنًى واحداً ثابتاً هو جوهرُها، أو هو حقيقتُها. يتّجه هذا النّوع من التّفكير في الماهيات إلى محاولة الكشف عن الأشياء في ذاتها، أي في ما وراء تجلّياتها المادّية والموضوعيّة، وفي ما وراء نظام العلاقات التي قد تكون الأشياءُ تلك طرفاً فيه. ولمّا كانتِ الحريّةُ مقترنةً بالذّات، في هذا النّظر الفلسفيّ الميتافيزيقيّ، كان مألوفاً أن يُفَكَّر فيها في علاقتها بالذّات ومتعلّقاتها: بالإرادة والوعي والوجود. وقد زخر تاريخ التّفكير الفلسفيّ بالنّصوص التي رأت إلى الحريّة في أبعادها الوجوديّة منذ الفلسفة المسيحيّة الأولى حتّى الفلسفات الوجوديّة المعاصرة، من غير أن نتجاهل مطارحةً إسلاميّة (اعتزاليّة) للمسألة ضمن نطاق السّؤال عن طبيعة الأفعال الإنسانيّة: هل هي حرّة - وإرادتُها حُرّة - أم مشدودة إلى إرادةٍ عليا خارجها تجسِّد سلطةَ الجبر.
وأمّا التّفكير الفلسفيّ السّياسيّ في الحريّة فمبناه على النّظر إليها بما هي مشكلة سياسيّة لا وجوديّة أو ذاتيّة؛ أي من حيث هي علاقة مجتمعيّة تربط بين فَعَلَةٍ متعدّدين، وتوزّعهم إلى قوًى تتقاطع مصالحُها أو تتضارب، لكنّها تنتهي إلى التّعبير عن نفسها في أفعال سياسيّة. نحن هنا أبعد ما نكون من ميدان الميتافيزيقا والتّأمّل التّجريديّ في ما وراء الظّاهرات الإنسانيّة و، طبعاً، في قلب الفلسفة السّياسيّة؛ الفلسفة التي لا تعنيها ماهيةُ الحريّة في شيء، بل صلتها بالسّياسة أو صلة السّياسة بها، وحاجة كلٍّ منهما إلى الأخرى لكي ينتظم عملُها على النّحو الفعّال. حين تكون الحريّة بهذه المثابة، أي ظاهرة سياسيّة لا ظاهرة وجوديّة، لا يعود الفردُ نطاقاً حصريّاً لها، وإنّما تكون الجماعة السّياسيّة مجالَ تَجلّيها وفاعليّتها.
هكذا، بوضْع الحريّة في نطاق السّياسة والاجتماع السّياسيّ، يمكن التّفكير في علاقاتها بالدّولة وفي وظائفها في ابتناء أنظمة الحقوق والمواطنة والدّيمقراطيّة والمشاركة السّياسيّة. حينها، فقط، ندرِك إلى أيّ حدٍّ تكتسب الحريّة معناها الاجتماعيّ الذي لا يأتيها من موردها الوجوديّ...