"عبثاً نستميت كي نعلم! عبثاً نستميت كي نتعلّم! عبثاً نستميت كي نتيقّن: العواطف محدودة، العقل ضعيف، الحياة قصيرة!"
"آناكساغور"
يكتسب الطريق مواهب الحكمة في كل الأسماء المجيدة، التي يجود بها كلّما استضافنا في حرمه المهيب، إلى حد كاد يغدو فيه معبوداً في علاقته بنشاط الإنسان، فينتحل هويّته في كل مرة، امتثالاً لنيّة الفارس الذي يحلّ في رحابه، ليعلّق الطريق على صدره وسام الاستحقاق حسب المقام الساري في وجدان البطل، أي أنه يستضيفنا، ليشرّفنا، بما يسكننا.
فكلمة "حجّ" التي نستخدمها للتعبير عن انطلاقتنا في الطريق، بغرض الحلول في محراب حَرَم، ليست في الأصل سوى "هَجَّ" الدالّة على التوجّه صوب أفقٍ مّا، تلبيةً لنداءٍ مّا، لتحقيق الابتعاد عن مكانٍ ما، قبل أن توهَب هذه التجربة غايةً قدسية، متمثّلة في نيّة أداء فريضة، ليستعير هذا الفعل الاغترابي بُعداً دينيّاً، قنّنه اللاهوت في حرف الواجب، برغم أن التجربة لا تبخل علينا بالدرس القائل إنّ كل سفرٍ هو حجٌّ، حجٌّ إلى بيت المعبود، لتُستنزَل مسوح الإغواء على الطريق، كممارسة طقسية.
ولكن الطريق يأبى إلّا أن يجود علينا بالمزيد عندما يخلع علينا لقباً جليلاً كـ"المهاجر"، لأن في هذا الاسم تسكن تلك المغامرة البطولية، التي نخوضها لكي نروّض النفس على الموت، كي نقتل في أنفسنا إنسان الطبيعة، لنبعث في النفس إنسان الروح، كما يقضي ناموس الحرية، تحقيقا لتغيير كان لنا فيه الأنبياء أئمةً.
فإذا كان الحجيج، أو الهجيج، موقفاً إزاء قدس أقداس هو أداء الواجب، المفروض بحرف الإيمان، فإن إدمان الهجرة هو موقف في شأن أقدس الأقداس وهو الحرية، التي ننتدبها لنبعث أنفسنا بفضلها من أنفسنا، لنحقق الميلاد بالروح، كما ألِفناها مترجمةً في حرف النبوّة.
ولكن آداب الضيافة تحتّم الجود على كل ضيفٍ بما يستحق من مراسم الإكبار، ومن حقّ "العابر" أيضاً أن ينال نصيبه من الغنيمة. فالسفر، مجرد سفر، هو تمرّدٌ شجاع على الروتين المميت، الذي أدمنه إنسان الترف، فأمات في نفسه أنبل شفرة في الوجود، وهي: الضمير.
فكلمة "سفر" في لغة التكوين تعني الاستشفاء. الاستشفاء من مرضٍ لعين هو الاستقرار، الاستقرار الدالّ، في هذه اللغة، على "الجمود"، (قرَّ)، ثم في مراحله القصوى، على: الموت. ولهذا كان احتراف الأسفار تأكيداً على الحضور قيد الحياة، في كل ثقافات العالم القديم. يكفي السفر فخراً أنه رفضٌ لقَيد، وتسليم زمام الأمر لما كان في المنطق، برهاناً على وجود، وهو: الحركة.
الحركة كعطيّة من مستودع الطريق، الطريق الذي لا يعترف في محرابه بعملٍ غير الحركة. الحركة التي تُنتج في أعطافها سعادة استعمال أعضاء لم تُخلَق لكي تُختزَن، أو لتستسلم لشللٍ هو خلل، ولكنها خُلقت لكي تسرَح إذا شاءت أن تُبرهن على رسالتها في كيان كائنٍ حيّ. فكلّ ما وُجد يهفو لأن يسعى في الأرض ليؤدّي دوراً. والرهان، أو الحافز، معلّقٌ في مشجب هذا الدور، وهو ما يعيه العابر، الذي لا يُيَمّم صوب غايةٍ مسبقة، ولكنه ينطلق عفوياً، ربّما فقط لكي يستشفي من داءٍ هو: الخمول.
والطريق يستقبلنا لكي يعفينا من هذا الشلل. يستقبلنا ليعلّمنا معنى أن نحيا! يلقّننا الدرس الذي خُلق من أجله، وهو أن يستدرجنا، بكل حيَل الإغواء، لكي نمارس حكمة أن نسعى، سعادة أن نسعى، ليُروّضنا، على المسعى، على مفهوم الطَّرْق، كفعلٍ جسيمٍ استعار منه الطريق كل فلسفته. الطَّرق الدالّ في مدلوله البعيد على البحث. بل على الإلحاح في البحث. أي ذلك العمل الذي نحتَ منه أهل السرّ منطقاً مهيباً هو: الطّلَب.
فالسفر، أو العبور إجمالاً، حملة ملحمية لن نفهم خباياها بدون إدمان. إدمان الطريق معلّمٌ يلقّن الحكمة بالمجّان، وإلّا لما استعار منه المريدون فلسفتهم العصيّة، المبثوثة في حرفٍ نجهل مدلوله الحقيقي وهو: الطريقة.
ما هي الطريقة في منطق الطريق؟
إنها حجر الحكمة في مدرسة الخلاص!
ليس هذا وحسب، ولكنها حجر الزاوية في الديانة الطاوية، التي استخدمت مفردة الطريق للتعبير عن ما كان قبلة الأجيال، وهي: الحقيقة! فحقّ لها أن تتغنّى بأعلى صوت: "مَن عرف الحقيقة في الصباح، في المساء يستطيع أن يموت!".