إذن هرب نابليون من منفاه وهبط فى الساحل الشرقى لفرنسا كى يستعيد الإمبراطورية، لم يكن يدرى أنه ذاهب فى عودته هذه إلى القدر المحتوم كما الأبطال فى الدراما الإغريقية، لإنه فى هذا الرجوع سوف يخط بيده السطر الأخير من كتاب مجده الشخصى، وسوف ينهى الملحمة النابليونية المتخمة بأعظم الأمجاد والأخطاء.
بعد وصوله إلى باريس واستعادة الحكم بدأ فى ترميم جيشه، وخلال فترة حكمه الجديدة التى عرفت بإسم المائة يوم كون جيش من مأئتى ألف جندى، ثم بادر بالخروج لإجهاض تحالف أوروبا وبريطانيا ضده، ودارت واحدة من أشهر معارك أوروبا "واترلو"، الواقعة التى هزم فيها نابليون، لتنتهى معها أسطورته، وينفى بعيدا إلى جزيرة سانت هيلانة فى غياهب المحيط الأطلنطى، حيث تعمد البريطانيون إهانته والتنكيل به، حتى أن اللورد البريطانى ذائع الصيت "هنري فاسل فوكس" انتقد فى البرلمان التعامل مع بونابرت بقسوة غير مبررة.
توفى نابليون فى الخامس من مايو سنة 1821 عن عمر يناهز 51 عاما بعد، أن قضى فى منفاه الأخير سبعة أعوام، فى حياة صعبة، واجه فيها كثير من العنت والإضرار المادى والمعنوى، وبلغ من عناد البريطانيين أن حاكم الجزيرة رفض نقل رفاته إلى فرنسا، ليدفن على ضفاف نهر السين كما أوصى.
نتيجة التماس من ملك فرنسا "لويس فيليب الأول"تم الحصول على إذن من الحكومة البريطانية بنقل رفات نابليون إلى باريس، فى إجراء اتسم بالجلال؛ نقلت فرقاطة من البحرية الفرنسية تم طلاؤها حدادا باللون الأسود الرفات، ومن تبقى على قيد الحياة من أتباعه، أما فى باريس فقد تمت مراسم جنازة مهيبة، حيث شيع فى موكب بدأ من قوس النصرإلى مثواه الأخير.
واجهت مسيرة حياة نابليون مآخذ كثيرة أبداها نقاده من المستنكرين له، لكن عبقريته العسكرية لم تكن محل خلاف بين خبراء الاستراتيجية ومدارس والعلوم العسكرية على مر الأزمنة من بعده.. فى مايزيد عن 19 عاما فقط خاض نابليون معارك كبرى لم تشهد لها أوروبا مثيلا من قبل، معارك قلبت القارة العجوز رأسا على عقب، فقد أتاحت أحداث الثورة الفرنسية حظوظا مكنت ضابط المدفعية الكورسيكى المغمور من أن يتبوأ مكانة بين عظماء القادة العسكريين عبر التاريخ، إذ شهدت حقبته بسبب الثورة الانتقال من حروب الملوك إلى حروب الشعوب، والتحول فى قوة بناء الجيش إلى التجنيد الإجبارى.
يعزى إلى نابليون أنه مؤسس فن الحرب الحديث، حيث قلل من الاعتماد على الحصون، وتبنى فى معاركة منهج قائم على العمل الهجومى، الذى يتميز بخفة الحركة والمناورة والحرب الخاطفة، وتوفير الاحتياجات الإدارية فى أماكن تواجد جيشه خارج فرنسا، ونابليون هو صاحب المقولة الشهيرة "الجيوش تمشى على بطونها"، للتأكيد على أهمية العنصر الإدارى وتأثيره على الأداء القتالى.
فى كل معاركه اهتم نابليون اهتماما بالغا بالروح المعنوية لقواته، ومن بعده اقرت الأكاديميات العسكرية فى العالم شرقا وغربا الروح المعنوية كعنصر اساسى فى مبادى الحرب، مثلها مثل الحشد والمرونة والتعاون وغيرها فى قائمة هذه المبادئ التى تختلف ما بين عقيدة عسكرية وأخرى، لكن الروح المعنوية منذ نابليون صارت عنصرا ثابتا فى كل العقائد العسكرية، كان قادرا على حفز جنوده، وإثارة همتهم، وإشعارهم أنه غير بعيد عنهم، فقبل المعارك كان يخرج على رأس مفرزة صغيرة من الجنود، ليستطلع عن قرب مواقع العدو، حتى أنه تعرض عند العودة فى إحدى المرات لنيران "القوزاق" التى كادت أن تفتك به، ضاربا لجنوده المثل والقدوة والشجاعة، وأنه بينهم وقبلهم أثناء المعارك، مغريا لهم بمجد جيشهم ووطنهم.
طور نابليون من الاستراتيجيات العسكرية السابقة له، كما قام بتعزيز النظام الذي أقرته الثورة الفرنسية، فى ترقية عناصر الجيش بناء على الجدارة، وبالرغم من استمرار تقنيات التسليح على ماهى عليه من قبل توليه القيادة إلا أنه أعاد استخدامها من خلال خطط أكثر ذكاء وديناميكية، كان أسلوبه فى إدارة المعارك يعتمد على صنع التفوق فى الاتجاه الحاسم عندما يبدأ الهجوم الرئيسى، وكان يستخدم المناورة عندما يواجه تحالفات معادية، بتدمير أحد الجيوش ثم بالمناورة السريعة التحول لتدمير جيش آخر، مع حرصه على عدم الإخلال بتماسك القوة الرئيسية فى جيشه وعدم تجزئتها، تبدى هذا الأسلوب جليا فى عام 1805 عندما قضى على القوات النمساوية فى معركة "أولم"، ثم استدار بقوته الرئيسية إلى التحالف البروسى / الروسى، وحقق انتصارا فى "أوسترليتز" إعتبره من أعظم انتصارته.
خاض نابليون فى أقل قليلا من عشرين عاما 80 معركة انتصر فى سبعين منهم، وهزم فى ثمانية، ولم يحسم معركتين، ولأنه فى الأصل ضابط مدفعية لم يتفوق عليه أى من خصومه فى استخدامها.. كان أسلوب إدارة معاركه التى أحدثت تطورا فى المفاهيم العسكرية مبنيا على مرحلتين:
المرحلة الأولى: عبارة عن إلهاء وتثبيت القوة الرئيسية للعدو؛ بعد تأمين قاعدة دفاعية قريبة للقوة القائمة بهذه المهمة، وفى هذه الإثناء حال نجاحها تقوم قوة أخرى بهجوم ثانوى مخادع، توطئة لأن تهاجم قوة التجميع الرئيسى المخفية فى الخلف.
المرحلة الثانية: تبدأ بالتحرك لتنفيذ الهجوم الحاسم بالقوة الرئيسية القادمة من الخلف، فى الاتجاه الأضعف الأكثر انكشافا بسبب أعمال قتال قواته فى المرحلة الأولى، وبالتعاون بين قوتى الهجوم الثانوى والرئيسى يتم تدمير قوة العدو الرئيسية، ومنع وصول الإمدادات له، ثم استغلال النجاح فى مطاردة فلوله.
يحدد مفكرو الاستراتيجية ومؤرخو التاريخ العسكرى أخطاء نابليون الرئيسية فى جانبين، اولهما تورطه فى غزو روسيا متجاهلا إلحاح مستشاريه بعدم عبور الحدود وغزو الأراضي الروسية، لأن مساحة هذه الدولة الشاسعة سوف تكلفه أعباء لوجستية وعسكرية هائلة، كما أن المناخ شديد البرودة بالغ القسوة لن يحتمله الجنود الذين لم يعتادوا على مثل هذه الأجواء المميتة.
دفع نابليون ثمنا باهظا لهذا الحرب التى كانت بداية نهايته، لقد بدأ الحملة بجيش قوامه 450000(أربعمائة وخمسون ألف) جندى عاد منهم إلى فرنسا أربعون ألف فقط رغم انتصاره فى المعركة على مشارف موسكو، التى يشار إليها باعتبارها الأفظع دمويا عبر تاريخ الحروب حتى ذلك الوقت.. أحرق الروس موسكو قبل أن يحتلها بونابرت، وعندما اضطر للعودة لفرنسا هزمته الطبيعة شر هزيمة ونكلت به كما فعلت مع جيوش هتلر من بعده.
الجانب الآخر من أخطاء نابليون هو اندفاعه المستمر فى المعارك المتتالية، دون أن تتوقف قواته عن القتال فى معارك لايتوفر لها فارق زمنى كاف، أكثرها كانت معارك بالغة الصعوبة، ما كان يجعل قواته رغم ارتفاع الروح المعنوية فى حالة إنهاك بدنى وذهنى، وكانت استعاضته المستمرة بخسائره من الجنود آخرين جدد دون وقفات لراحة الجنود القدامى وتدريب الجدد على الدمج إحدى السلبيات المعوقة، وكلف هذا الخطأ الفرنسيين عشرات الألاف من الضحايا.
فى الجانب المدنى أثناء حكمه الإمبراطورى أنفذ نابليون عملا حفر اسمه فى التاريخ كرجل دولة ملهم، عندما كلف أربعة من عتاة القضاة بإعداد القانون المدني الفرنسي، تمييزا له عن القانون الجنائي، وهو القانون الذى أطلق عليه كود أو قانون نابليون، إجلالا لفكرته ودوره فى إصداره.. كان الرجل محقا عندما قال: "سوف تمحو واترلو ذكرى كثير من الانتصارات، لكن ما سوف يحيا إلى الأبد، هو قانونى المدنى"، لقد كان هذا القانون إنجازا ثوريا غير وجه الحياة القانونية والاجتماعية فى أوروبا التى حاربته، ومازال قانون نابليون يشكل أطارا مرجعيا لكثير من الأنظمة القضائية حول العالم حتى الآن. لكن هذا الإمبراطور على الجانب الآخر أهدر سمعته كرجل دولة، حينما أعاد نظام العبودية فى مستعمرات فرنسا ماوراء البحار.
الطبيعة الدرامية فى شخصية هذا الرجل الفذ والمفارقات الكثيرة التى تماهت مع مسيرة حياته الصاخبة لم تذهب هباء، ما جعل السينما العالمية عبر مشاهير مخرجيها شرقا وغربا تنتج مئات الأفلام عنه، كما أدى دور نابليون عظماء الممثلين فى السينما العالمية عبر تاريخها، واستمر وجود هذه الشخصية الاستثنائية مع تطور فنون التلقى البصرى، لتصل إلى شخصيات الرسوم المتحركة وألعاب السوشيال ميديا.