مازال معدل التضخم مرتفعا في دول العالم الصناعية، من أمريكا الشمالية إلى أوروبا، وبينما خفضته المعالجات التقليدية قليلا، لكنها لم تفلح في كبحه، الأمر الذي دفع العديد من الاقتصاديين وقادة المؤسسات المالية الدولية للبحث عن أساليب جديدة للتعامل معه.
تضافرت أسباب عديدة خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة، في رفع معدل التضخم، وأول هذه الأسباب وأهمها، جائحة كورونا، التي دفعت الحكومات الغربية إلى التوسع في التحفيز المالي وخفض أسعار الفائدة، بهدف إبقاء اقتصاداتها نشيطة في فترة خمول فرضتها ظروف الجائحة، ثم جاءت الحرب في أوكرانيا لتفاقِم المشكلة، إذ تسببت في مضاعفة أسعار الطاقة، التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي، ثم أن تدني قيمة عملات بعض البلدان الصناعية، كاليابان والدول الاسكندنافية، قد تسبب في ارتفاع الأسعار فيها.
لكن محافظي البنوك المركزية الكبيرة مازالوا مصرين على سلاحهم الأوحد لكبح التضخم، ألا وهو رفع أسعار الفائدة، بهدف إبطاء النمو الاقتصادي، وسحب الأموال من المستهلكين كي يتقلص الطلب وتنخفض الأسعار. جيروم بأول، رئيس البنك الاحتياطي الفدرالي، وهو البنك المركزي الأهم في العالم، قال مؤخرا "إن أمامنا طريقا طويلا كي نصل إلى هدفنا ببلوغ معدل تضخم قدره 2 بالمئة" ما يعني أن أسعار الفائدة سوف تبقى مرتفعة لفترة طويلة، بل قد ترتفع أكثر.
بينما أعلنت كرستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، ثاني أهم بنك مركزي في العالم، في لقاء مع مسؤولين أوروبيين عقد في البرتغال الشهر الماضي أن "لا تهاون في الحرب على التضخم، فالمعركة مستمرة وإعلان النصر مؤجل حاليا". أما محافظ البنك المركزي البريطاني، أندرو بيلي، فقال بوضوح إن أسعار الفائدة ستبقى مرتفعة لفترة أطول مما تتوقعه الأسواق.
غير أن الأسلحة التقليدية المستخدمة لكبح التضخم، وهي رفع أسعار الفائدة وتقليص الإنفاق العام، أي اصطناع كساد، ليست كافية على ما يبدو. صحيح أن معدل التضخم الأساسي (Core Inflation)، والذي يستثني من حسابه المواد المتقلبة الأسعار، كالطاقة والمواد الغذائية، انخفض في الولايات المتحدة إلى نصف ما كان عليه العام الماضي، من 8.58 بالمئة إلى 4.05 بالمئة، حسب مركز (Ycharts) للأبحاث المالية، لكنه مازال بعيدا عن الهدف المحدد وهو 2 بالمئة.
أما معدل التضخم الكلي (Headline Inflation)، وهو الذي يعكس بصدق معدل التضخم الحقيقي في الاقتصاد، فمازال عصيا على الانخفاض في أمريكا الشمالية وأوروبا، لأنه يشمل أسعار السلع والخدمات جميعا، بما فيها المتقلبة الأسعار.
الحقيقة أن معدل التضخم الأساسي مضلِّل، لأنه يقصي كل مادة ترتفع أسعارها بشكل مفاجئ، حتى لو كانت أساسية، كالطاقة، ما يعطي صورة مختلفة، ربما وردية أحيانا، عن الوضع. لكنه ضروري لمعرفة تأثير ارتفاع أسعار المواد المتقلبة الأسعار، على باقي المواد، عبر استثناء الأولى من الحساب، وإعطاء صورة أخرى تستثني التقلبات السعرية المفاجئة.
أما معدل التضخم البريطاني، الذي بلغ (8.7 بالمئة)، بعد أن كان 11 بالمئة في العام الماضي، فقد فاق نظيره الأمريكي بأكثر من الضِعف، إذ كان انخفاضه بطيئا، بينما انخفض معدل التضخم السنوي في الاتحاد الأوروبي، من 8.1 بالمئة إلى 7.1 بالمئة، حسب الدائرة الإحصائية للاتحاد الأوروبي (Eurostat). وسبب انخفاض معدل التضخم الأساسي هو انخفاض أسعار الطاقة، لكن هذا الانخفاض لا يمكن الوثوق به، لأنه قد يكون مؤقتا، فأسعار الطاقة مازالت قلقة، والعالم لم يستطع أن يوطِّد استقرارها حتى الآن.
ومن أجل أن تكون المعالجات ناجعة، يجب معرفة كل مسببات التضخم، وهي كثيرة وتختلف من بلد لآخر، اعتمادا على سياسات الحكومات المختلفة، وطبيعة معالجاتها للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها، وموقع البلد في الدورة الاقتصادية، لكنه بشكل عام يتعلق بأمرين مرتبطين ارتباطا وثيقا ببعضهما بعضا. الأول قلة المعروض من السلع والخدمات، مقارنة مع الطلب عليها، بعبارة أخرى، ارتفاع الطلب بوتيرة أسرع من قدرة المنتجين على تلبيته. وارتفاع الطلب له أسبابه التي سيأتي ذكرها.
أما الثاني، والذي قد يكون سببا للأول، فهو توفر المال لدى المستهلكين، أو سهولة الحصول عليه، عندما تكون أسعار الفائدة متدنية، الأمر الذي يدفعهم إلى الإنفاق. وهناك أمر مهم آخر ذو علاقة، وهو مستوى ثقة المستهلكين بالمستقبل. فعندما تكون الثقة عالية بأن الوضع الاقتصادي مطمئن، وأن الإيرادات مضمونة، فإن المستهلك حينئذ يمتلك الشجاعة لأن ينفق أكثر، حتى وإن حصل على المال عبر القروض الميسرة. لكنه عندما يشعر بأن المستقبل غامض، وأن مصدر دخله مهدد، فإنه يتردد في الإنفاق، حتى لو توفر لديه المال.
لكن نقص المعروض مقارنة بالطلب قد يعود إلى قلة الإنتاج، وأسباب ذلك متعددة، من نقص الأيدي العاملة الماهرة، إلى نقص المواد الأولية، إلى سوء التوزيع وتدني البنى الأساسية للبلد، إلى سوء التخطيط الاقتصادي لدى المنتجين، الذي ربما اعتمد على تنبؤات اقتصادية غير دقيقة، متشائمة على الأكثر، خصوصا في البلدان ذات الاقتصادات الحرة، أما في البلدان ذات الاقتصادات الموجهة، وهي قليلة الآن، فإن التخطيط المركزي عادة ما يكون بطيئا في الاستجابة لمتطلبات السوق والمستهلكين، لذلك تكثر فيها التقلبات والأزمات، بين الوفرة أحيانا والندرة أحيانا أخرى.
وقد يكون النقص ناتجا عن ارتفاع الطلب أكثر من المتوقع، إما بسبب النمو الاقتصادي وارتفاع الأجور، أو لحصول تطور مفاجئ، أو تغير في عادات المستهلكين، أو نتيجة لتعطل الإنتاج بسبب الإضرابات، أو الكوارث الطبيعية، أو اندلاع الأوبئة الذي يدفع الناس إلى البقاء في منازلهم، كما حصل في جائحة كورونا عامي 2020 و2021، التي أسست لارتفاع معدل التضخم الحالي، إذ تسببت في نقص الإنتاج وتوقف معظم النشاطات، وزيادة الإنفاق الحكومي، لتفادي تأثيرات هذه الكارثة على الاقتصاد، وتذليل الصعوبات التي يتعرض لها السكان بسببها، إضافة تشعب برامج التحفيز المالي، وتراكم المدخرات لدى المستهلكين بسبب الإغلاق، وعدم توفر مجالات كثيرة للإنفاق، الأمر الذي حفَّزهم على الإنفاق المفرط بعد رفع القيود، والذي تسبب بدوره في زيادة الطلب ورفع الأسعار.
أما السبب الثاني وهو توفر المال فهذا يعتمد على كثافة النشاط الاقتصادي ومعدل النمو الاقتصادي في البلد وسياسة الحكومة المتعلقة بحجم الانفاق على الخدمات، وبرامج تشجيع الاستثمار ومستوى الضرائب المفروضة، وطرق توزيعها على دافعيها، إذ تختلف الحكومات في توزيع الضرائب على المواطنين، حسب توجهاتها السياسية وقواعدها الجماهيرية.
الحكومات اليسارية، مثلا، ترفع الضرائب على الأغنياء وتخفِّضها على الفقراء، بحيث تكون الفجوة واسعة بين معدلي الضريبة، بهدف إعادة توزيع الثروة، وجباية مزيد من الأموال للإنفاق على الخدمات، أما الأحزاب المحافِظة، فتقلِّص الفجوة الضريبية بين الأغنياء والفقراء، لصالح الأغنياء طبعا، ولكن ليس بالضرورة على حساب الفقراء، بهدف دفع الأثرياء للاستثمار، والعاملين لبذل المزيد من الجهد لكسب المال، الأمر الذي يعزز النمو الاقتصادي.
أسباب ارتفاع معدل التضخم في الولايات المتحدة يختلف عن أسبابه في أوروبا، مثلا. في أمريكا، أنفقت الحكومة 26 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي على تحفيز الاقتصاد أثناء جائحة كورونا، تقابلها نسبة إنفاق تتراوح بين 8-15 بالمئة في الاقتصادات الأوروبية الكبيرة. كذلك فإن أوروبا تأثرت أكثر من أمريكا بأزمة ارتفاع أسعار الطاقة لأنها تعتمد على الغاز الروسي، بينما تنتج الولايات المتحدة ما يكفيها من الغاز، بل أخذت تصدر الفائض منه إلى أوروبا.
هناك الآن من يرى بين الاقتصاديين بأن أحد أسباب التضخم هو جشع المنتجين الكبار الذين رفعوا الأسعار لزيادة أرباحهم، ما أدى إلى انتقال الكلفة الزائدة إلى المستهلك، متسببة في ارتفاع الأسعار. ويسمي هؤلاء هذا النوع من التضخم بـ"التضخم الجَشَعي"، (Greedflation)، أي الناتج عن الجشع. الاقتصادات الرأسمالية تكبح ارتفاع الأسعار عبر تشجيع التنافس بين المنتجين ومقدمي الخدمات، وسن قوانين تضبط التنافس بين الشركات وتمنع الاحتكار، الذي يقود عادة إلى ارتفاع الأسعار، بل وتمنع هيمنة شركة واحدة أو شركات قليلة على السوق، إلا في قطاعات محدودة ووفق ضوابط صارمة.
إلا أن وجود عدد قليل من الشركات العملاقة، خصوصا في المجالات العالية التخصص، التي تحتاج إلى استثمارات هائلة، كإنتاج الطاقة والصناعات الثقيلة والمصارف، قد ساهم في وضع قيود على التنافس بحيث صار صعبا على شركات جديدة أن تدخل السوق، وإن دخلته، فإنها لا تستطيع أن تهدد هيمنة الشركات العملاقة، أو أنها تنهار عند حصول الأزمات كما حصل للبنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم، كسليكون فالي وسيغناتور وفيرست ريبوبليك، التي انهارت بسبب عجزها عن مجاراة البنوك العملاقة.
ويرى صندوق النقد الدولي، حسب مجلة الإيكونوميست، أن أرباح الشركات المتصاعدة "شكلت نصف الزيادة في معدل التضخم في منطقة اليورو خلال العامين المنصرمين". وحسب المجلة، فإن رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كرستين لاغارد، هي الأخرى تتبنى هذه النظرية، إذ طالبت في كلمة أمام البرلمان الأوروبي الجهات الرقابية المتخصصة "بالنظر في مدى قانونية سلوك بعض القطاعات التي استغلت الأزمة الاقتصادية".
لا شك أن تحديد هامش أرباح الشركات عموما، والكبرى خصوصا، سوف يساهم في تعجيل خفض معدل التضخم، ولكن هل ستقدم عليه الدول الرأسمالية الغربية، خصوصا وأنه يؤدي إلى إضعاف قدرة الشركات على الاستثمار في مشاريع جديدة، وتقليص إيرادات المساهمين من أصحاب الأموال الذين يؤيدون الأحزاب المحافظة في العادة؟
كفاءة المؤسسات المالية الغربية ازدادت كثيرا خلال السنين الأخيرة، نتيجة لتراكم التجارب، وقد أخذت تنظر في إمكانية وجود حلول مبتكرة للأزمات الاقتصادية. قد تجد الحكومات الغربية أن تحديد هامش أرباح الشركات سيؤدي في النهاية إلى خفض الأسعار وكبح التضخم، دون المرور بفترة كساد عميقة ومربكة. لكن مثل هذا الحل يلائم الحكومات اليسارية، أما الحكومات المحافِظة، فستجده صعبا لأنه يؤثر على مداخيل مؤيديها ويتعارض مع نهجها الاقتصادي، لكنها قد تلجأ إليه مؤقتا للخروج من الأزمة الحالية.