بأيّ حقّ نستنكر أن يتراجع الفكر في واقعنا الإنساني إذا كنّا قد نصّبنا بعبع التقنية جلّاداً على واقعنا طوعاً كي يقرأ بالإنابة عنّا، ويفكّر بالإنابة عنّا، ويمارس الوجود بالإنابة عنّا، لنقبل باغترابنا عن سؤال بيلاطوس الخالد: «ما هي الحقيقة؟»؟

وكي نفهم موقعنا من الواقع، من المناسب أن نحدّد موقفنا من بعبع التقنية أساساً، ومن بعبع تقنية المعلومة تحديداً، لأن محنتنا إنّما تسكن طينة المعدن فيهما بصفته كخطيئة، لأن ما هو اختراع معدن الحديد إن لم يكن تجربة تجديف في حقّ الربوبية، لا تختلف في جوهرها عن الإثم المقترف بحرف الخطيئة الأولى، مع اختلافٍ جذريّ، لأن الخطيئة الأولى قادتنا إلى بلاط المعرفة، أمّا خطيئة الإتقان، التي استعار دهاة الحديد إسم صنعتهم منها تيمّناً بإسمها، فقد قادتنا إلى التجديف في حقّ المعرفة، لتلعب دور الردّة في حملتنا الأسطورية العصيّة نحو أن نعرف؛ نعرف لنعرف أنفسنا بهذه المعرفة، لنحدّد موقعنا من الألوهة بهذه المغامرة؟

فما هي التقنية التي سلّمناها زمام أمرنا أخيراً، لنجد أنفسنا في قبضتها رهائن، بدل أن تكون رهينة مشيئتنا، كما خطّطنا، أو كما خطّط أسلافنا يوماً؟

فالتقنية لم تولد كردّة لتصحيح وضع علاقتنا مع البراءة الأولى، التي اغتربنا عنها بفضل الإفتتان بأن نعرف، ولكنها أقبلت كي تحرّضنا على أن نقلع عن تعاطي هذا الافيون، لا لغاية استعادة الفردوس الضائع، ولكن لغاية قطع شوط أبعد في سُلّم التمرّد، بتحقيق قفزة نوعيّة في معراج الإغتراب عن الطينة الأولى، بالتوغّل في أدغال واقعٍ ثريّ، الإغواء فيه رأسمال، عندما يعد، ويعد بلا حدود، إيماءً في الجود بالمزيد، وما حُجّة دهاة الحديد في اختراع معدنهم اللئيم سوى تلبية لنداء هذه الدعوة الغيبيّة الكامنة في هبة الوجود، باستثمار هذا البعد الغيبيّ فيها تحديداً. (يجب أن نلاحظ أن كلمة «تحديد» هنا هي استحضارٌ حرفيّ جريء لسلطة هذا المعدن السحري الرهيب، باعتماده في اللغة قياساً للدقّة، ومرجعاً لا يجارَى في الحكم على الأشياء، لا في ماهيّتها الحرفية أو الطبيعية فقط، ولكن في متاهتها الروحية، بل والماورائية إجمالاً)، وهي فرصة تدفعنا لاستنطاق هذا الاكتشاف المَهول، المجسّد في هذا الإختراع المشفوع منذ البدء بهالة من الغموض، الذي يمتزج فيه آي الإكبار، بأحكام الإنكار، لتستنزل الأمم في حقّ صاحب الحديد مراسم التكريم من جانب، وتُهَم الإدانة من جانب آخر، على النحو الذي يوميء إليه شبنغلر في عمله النبويّ «غروب الغرب»، الذي لن نخطيء اليوم في أن نسمّية «إفلاس الغرب»، في حال شئنا أن نستجوب فيه المنطق الرؤيوي. فهل ينال داهية الحديد مراسم التكريم من باب التقيّة منذ فجر التاريخ، تحصّناً من مواهبه في نشر الشرور، أم من باب المكافأة على شجاعته في اختلاق أداة، هي سلاحٌ فتّاك، حتّى لو كانت هذه الأداة سبباً في اقتراف القتل؟ الواقع أن مبدأ الحدّة، السارية في مسام معدنٍ جهنّميٍّ كالحديد، لم تكتفِ بأن تجري خصلةً في مسام الحديد كمعدن، ولكنها تسلّلت لتحقّق منزلة السلطان في اللسان، لتكون حجّةً في المنطق! وأن تكون حجّةً في المنطق، فهذا سيعني أنها حجّةٌ في الوجود، مادمنا قد سلّمنا بعدم وجود فرق بين الوجود والمنطق. فالحدّة في حدّ الحديد، توازيه حدّة في حدّ لسان صاحب الحديد، ليتمكّن هذا الداهية من لعب دور إعلاميّ طليعي في واقع العالم القديم، استطاع بموجبه أن يستولي على صلاحيّات كانت إلى وقتٍ قريب حكراً على الحكمة، فإذا بها تتحوّل سلطة طاغية بترجمتها من موقعها في معدن الحدّة، إلى عضلة غيبيّة مسمومة (كما يصفها سفر يعقوب)، فتتحوّل سلاحاً أقوى مفعولاً بما لا يقاس من سلاح الحرف، المنتدب في معدن خبيث هو الحديد، ليستعير «هنسوا» المشئوم، كبيتٍ لتطويع الحديد، في اللغتين المصرية والليبية القديمتين، مكانة الخصم اللدود لبيت آخر أعظم حرمةً، وأسمى منزلةً، وهو «هنّكيت»، الدالّ في هاتين اللغتين، على الحرم، أو معبد الربّ. وهو كلمة ملفّقة من «هن» الدالّ على «البيت»، و«كيت» الدالّ على القرابين، أو الأضاحي.

وهذه الحدّة، السارية في لسان الحدّاد، المستعارة على ما يبدو من حرفته المشبوهة، هو ما اعتادت الأمم أن تخشاه، فلا تبخل على الحدّاد بالعطايا، تحسّباً لمفعوله، وقطعاً لشرور الذمّ  الكامنة في نشاط لسانه، إلى جانب وجود مواهب أخرى، يجود بها عمله، كما نجده جليّاً في إسمه «إينَض»، بلغة أمازيغ الصحراء الكبرى، الدال على «التطويع»، أو القدرة على تقويم الأشياء، لتغدو هذه الملفوظة جذراً لمصطلح جسيم المعنى هو «الوصيّة» أو ترويض الرأي، وتقليبه بصنوف الطّوي، والتطويع، والتقويم، على نحوٍ يوافق النيّة التي انتدب من أجلها، ليترنّم بالأنشودة الوجدانية، المستعارة من واقع حسّي، على طريقة لغة التكوين التي تعتمد منهج توليد المفهوم المجرّد، من صلب التجربة الحرفية. وهو ما يعني أن عمل الحدّاد محاكاة لخالق الخلق في تلفيق المخلوق من طينة الطين (كما في سفر التكوين)، مع فارق حاسم، هو تفوّق الربّ في عمله بنفخ الأنفاس في هذا الجرم، المدعو في معجم الميثولوجيا بـ«الغوليم»، ليستعير الروح من المبدع، مسكونةً بمعجزة عصيّة هي: الحبّ، هذا في حين لا يملك مبدع الحديد إلّا أن ينفخ في مخلوقه من روح ليس لها إلّا أن تكون روح الخصم الخالد، المستحضر من أفران النار، ليتعاطى دين النار!

من هذا الشبح، المسكون بروح النار، استعار ساحر الحديد مواهبه المشبوهة، التي طوّعت الإثم المبثوث في السَمّ الماكر، الساري اليوم حرفاً في كل ما متّ بصلة للتقنية، منذ أن أضاف جناب اللاهوت إسم الإضافة في مفردة «الخِيَاط»، كشرط للإعتراف باكتمال فريضة الإحرام: هذا الإحرام المجيد، الذي اعتدنا أن ننعته حجّاً إلى بيت الله، ليصير في وجودنا رهين التجرّد ممّا أسميناه «سَمّ الخِياط». وهو ما يعني أن أتفه جزئية، حتّى لو كانت إبرة، هي، في مفهوم، القداسة، شفرة دنس، مادامت تنتمي إلى طينة الحديد، الحامل للضدّين في اللغة، مثله في ذلك مثل كلمة «حرم»، الدالّة على القداسة، وعلى الإثم أيضاً. فالحديد، في اللغة، قد تعني جلاداً هو السجّان، وقد تعني الضحية في المعادلة، وهو المحروم. والحِداد على الموتى، المستعار من الحديد، طقس يعبّر عن ممارسة الإحرام!

من سيرة «سَمّ الخِياط» هذا، المشفوع بلعنة الأوائل، تسلّلت اللعنة إلى التقنية، لتغدو هذه الجنيّة الشبح المخوّل بمصادرة حريّتنا، بل واختلاس حقيقتنا، عندما أدمنت الأكذوبة إفيوناً، لأنها الفاكهة المنتجة بمشيئة سمّ الخياط، عندما يمارس في حقّنا صنوف الحيل، لكي يوهمنا بأنه إنّما يجود علينا بكنوز الحكمة، عندما يغرقنا بهذا الكمّ الهائل من قمامة هي مجرد معلومات، بل أكاذيب في صيغة حقائق، بفضل التلقين، عملاً بالوصيّة الشريرة: «كرّر الأكذوبة لتتحوّل حقيقة»! وعلّ أسوأ ما في هذه التجربة هو قدرة الأكذوبة في سيرورة التكرار، أن تتحوّل بديلاً للحقيقة، حتى في حال أعجزها أن تتبوّأ منزلة الحقيقة. وهو ما لا سبيل لتأويله بدون استجواب روح الميتافيزيقا في الأكذوبة. فالحقيقة في مقابل الأكذوبة دوماً ضحية، لأنها نزاهة، والنزاهة في حقّها شهادة براءة، ولكن الأكذوبة آثمة، ولذا فهي بالخبث جلّاد، والجلّاد، في المعادلة، سلطان سلطة.

ولكننا كثيراً ما نخطيء في تقييمنا لحقيقة الأكذوبة، في موقفها من الواقع، ومن عدوّتها الحقيقة، سيّما عندما نتجاهل مواهبها التي نصّبتها في حياتنا وصيّاً. وعلّ أول هذه المؤهّلات: الإغواء. فما يجب أن نعترف به لها هو السيماء، سيماء الحُسن في المظهر، الذي به تستدرجنا بفنون الإغراء كأي حسناء لعوب. فهي تستثير فضولنا، فنستسلم لحيلها، فلا نضمن ألّا نقع في حبّها، لقدرتها على استغلال ضعفنا الأزلي عندما يتعلّق الأمر بالجمال؛ الجمال حرفاً، الجمال حتّى في حال تعرّى من حجّته كروح، من حجّته كامتلاء، ولو لم يكن الأمر كذلك لما وجدنا، في واقعنا الإنساني، نموذج العاشق المخدوع. فالأكذوبة، بكل المقاييس، فتنة. فتنة سحرية، نفحة رومانسية، مزحة مشفوعة بروح الشعر، تهفو لأن تحلّق تلبيةً لنداء الحرية: حرية مزعومة بالطبع. حرية لئيمة، سيّما عندما تتحالف مع سليلة سَمّ الخياط: التقنية، تقنية المعلومة تحديداً، لتخنق فينا التوق إلى استعمال التفكير، لاستجلاء قدس أقداس، وهو: الحقيقة، لنصير اليوم شهود عيان على إفلاس هذا الفكر. وأسوأ ما في الأمر أن هذه السليلة أوتيت القدرة على تسويق المعلومة بوصفها علماً، كما سوّقت الأكذوبة بوصفها حقيقة، فلا نعود معنيّين بسؤال الحكيم الخالد، الموجّه لنبيٍّ، هو المسيح، وهو: «ما هي الحقيقة؟»، ليبقى السؤال معلّقاً في الفضاء كما كان يوماً، ليغترب عن واقعنا منذ تنصّل النبيّ عمداً من الإجابة على السؤال، بفراره إلى الملكوت، الذي عصم يوماً جناب الحقيقة من عدوان عضلة مسمومة كاللسان، فأعجزها أن تعبّر عن أحجيتها، فلم يجد شهيد أجيال، كالمسيح، ما يجيب به على السؤال سوى: «حقيقتي ليست من هذا العالم»، مبرهناً بذلك على حقيقة أقوى مفعولاً، وهي أن وجونا في هذا العالم ليس جواباً على سؤال بيلاطوس تحديداً، ولكنه حَطٌّ من قدر السوال، لأن اغترابنا عن الحقيقة، هو ما يحوّلنا سؤالاً ليس في حاجةٍ إلى جواب، لأن وجود الجواب، في هذه الحال سوف يعني نهاية مطاف، سوف يعني قيام قيامة.

هامش ١

عندما نتحدّث عن الحديد كمعدن فنحن نتحدّث في الواقع عن الحدود: الحدود في المفرد هو الحدّ. الحدّ ليس في مفهومه كبرزخ يفصل بين الأوطان، ولكن الحدّ في مفهومه الدينيّ، في مفهومه الشائع، الدالّ على القصاص. هذا القصاص هو ما يحمله سَمّ الخِياط في جعبته، كجرثومة مميتة، ليستنزله لعنةً في حقّ كل مَن يبيح لنفسه بأن يكابر، ويعاند، ويتمرّد على باطل الأباطيل، لكي يحقق لنفسه وجوداً في الحقيقة!

هامش ٢

عندما نتأمّل إفلاس الفكر، فنحن لا نعني بالفكر مجرّد تفكّر، مجرد ما ندركه ابستيمولوجيّاً وَعْياً، ولكن الفكر هنا بمعنى التماهي، التماهي الروحي في حدوده القصوى. أي أننا، عندما نحترف التفكير، فنحن نمتهن المحو، أي أن نكون كينونةً في واقع ما نستجليه عميقاً، بحيث نحقق الحرية الأبعد منالاً، لتتحوّل الذات موضوعاً، ويتحوّل الموضوع ذاتاً. وهو ما يعني أن الإفلاس، الناتج عن هيمنة الأكذوبة، المعطاة بفضل تقنية المعلومة، المدنّسة بإثم آثامٍ هو سَمّ الخِياط، فإننا لا نغترب عن واقعنا فقط، ولكننا نغترب عن كينونتنا، نغترب عن الحقيقة فينا، وبغياب الحقيقة فينا، يحلّ الخواء، الذي تسمّيه الميثولوجيا بالـ«غوليم»، أي الجسد الفارغ من الروح. لقد بدأنا ندفع ثمن تنصيبنا للتقنية كمعبود، والمستقبل القريب يعدنا بفصول اغترابٍ أغرب.

فما علينا أن نراهن عليه هو تحديد موقفنا من سؤال الحقيقة، لتحديد ماهيّتنا، وبالتالي، قيمتنا، وهو ما لن يتحقق بدون استعادة موقعنا من أُمٍّ لنا هي الطبيعة، المعادية بطبيعتها، لعلّة اغترابنا: التقنية.