العراق بلد يزداد جفافا وتصحرا بسبب تناقص مياه دجلة والفرات، ويتكاثر سكانه بشكل مذهل، رغم الحروب والفقر وأعمال القتل والتدمير التي مارسها أبناؤه ضد بعضهم بعضا. ولكن ماذا يضمر له المستقبل، مع كل ما يجري من تغيرات اقتصادية وسياسية ومناخية وتكنولوجية في العالم؟
البلد الذي كان يُسمى الهلال الخصيب وأرض السواد وبلاد ما بين النهرين تتقلص فيه المساحات الخضراء والأراضي القابلة للزراعة، بينما يهاجر سكان الريف إلى المدن بحثا عن حياة أفضل، بعد أن جدُبت الأرض، وما عاد الريف قادرا على توفير العيش الكريم لسكانه.
مؤشر "لغاتوم" العالمي للازدهار يضع العراق في المرتبة الأربعين بعد المئة في سلم التطور العالمي، أي أن هناك 27 دولة فقط أقل ازدهارا منه في العالم، بينما تتفوق عليه 139 دولة! هناك دول عربية ثلاث فقط، أقل ازدهارا من العراق، هي ليبيا في المرتبة (146)، وسوريا (159)، واليمن (166)! كل بلدان أفريقيا شبه الصحراوية أكثر ازدهارا من العراق، ابتداءً من موريشيوس في المرتبة (47)، مرورا برواندا (111)، التي كانت في التسعينيات مسرحا لحرب أهلية دامية، وانتهاءً بأوغندا (129) وغينيا الاستوائية (129) وإسواتيني (134)، التي لم يسمع بها أحد على الأرجح!
ورغم أن المؤشر بيَّن أن العراق قد ارتقى خمس مراتب منذ عام 2011، وهذا تحسنٌ محمود، لكنه مازال بين البلدان الأقل ازدهارا، رغم ثرواته الطائلة، الطبيعية منها والبشرية، واحتمالاته الاقتصادية الهائلة، التي تحتاج إلى قيادة مخلصة، تخطط للمستقبل بدقة ومعرفة، وتستكشف احتمالاته الواسعة، بدلا من التقوقع في الماضي.
مؤشرات الازدهار الأخرى لا تبشر بخير، فمؤشر الحريات الشخصية، مثلا، يضع العراق (الديمقراطي) في المرتبة 133، ولا أدري أي بلد ديمقراطي في العالم يمكن أن تتدنى فيه الحريات الشخصية إلى هذا الحد، فيضطر مثقفوه ومفكروه وأحراره أن يغادروا إلى البلدان المجاورة، "الأقل ديمقراطية"، كي يشعروا بالحرية، ويسْلَموا على أرواحهم، ويعبِّروا عن آرائهم ومعتقداتهم! خلال ستة أشهر بين أكتوبر عام 2019 وأبريل عام 2020، قُتل في وضح النهار أكثر من 700 ناشط مدني ومتظاهر سلمي في شوارع بغداد والبصرة والناصرية والنجف وكربلاء وباقي مدن العراق، وبينهم نساء، أشهرهن الدكتورة ريهام يعقوب، بينما خُطف المئات وجُرح عشرات الآلاف!
مؤشر الحكم الرشيد (الحوكمة) يضع العراق في المرتبة 135، ما يعني أن الحكم (الديمقراطي) في العراق لا يمثل الشعب الذي يفترض أنه انتخبه، ولا يكترث لمصالح الناس، إلا بنسب متدنية، وربما يقتصر الاهتمام على أعضاء الجماعات الحاكمة ومؤيديها. أما مؤشر الرأسمال الاجتماعي، الذي يقيس مدى توفر قنوات التفاعل والتواصل التي تمكن المجتمع من أداء وظائفه على أكمل وجه، فيضع العراق في المرتبة 138، ومؤشر المبادرات الاقتصادية يضعه في 144، ومؤشر الأمن في 163، أي أن هناك أربعة بلدان فقط أسوأ من العراق في مجال الأمن، وهي سوريا (164) واليمن (165) وأفغانستان (166) وجنوب السودان (167).
أما المؤشرات الأخرى فهي:
مؤشر البيئة الطبيعية: 167 (أسفل القائمة)، وهذا المؤشر يقيس مدى تأثير البيئة الطبيعية على أداء الناس لوظائفهم، وتدني هذا المؤشر يعني أن الدولة لم تفعل شيئا لتذليل قسوة الطبيعة على المجتمع. مؤشر الاستثمار في البيئة: 127، مؤشر جودة التعليم: 121، مؤشر جودة الصحة: 115، مؤشر توفر الأسواق والبنى الأساسية: 107، مؤشر الجدوى الاقتصادية: 105، وأخيرا مؤشر مستوى المعيشة: 87. والأخير، رغم تدنيه عن 86 دولة في العالم، إلا أنه الأفضل، ولولا إيرادات النفط لما بلغه العراق.
ويرى البنك الدولي أن العراق من أكثر الدول اعتمادا على النفط، إذ يشكل 99% من صادراته، و85% من إيرادات الحكومة، و42% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو قيمة منتجات البلد والخدمات التي يقدمها خلال عام واحد. مثل هذا الاتكال المطلق على النفط يربك الاقتصاد ويحد من قدرة الحكومة على المناورة وتبني سياسات تلائم الدورات الاقتصادية المختلفة.
انكمش الاقتصاد العراقي عام 2020 بنسبة 11.3%، وفقا لبيانات البنك الدولي، ورغم أنه بدأ ينتعش بنسبة متدنية تتعدى 1% قليلا، فإن معدل البطالة، الذي كان 12.7% عام 2019، ارتفع عام 2021 إلى 23% من مجموع الأيدي العاملة، وهي نسبة عالية بالمقاييس العالمية كافة.
يبلغ معدل البطالة العالمي 6.18%، حسب مؤشر مؤسسة (ماكروترند) البحثية العالمية، الذي يعتمد عليه المستثمرون في العالم. وهذا يعني أن معدل البطالة في العراق يقترب من أربعة أضعاف معدل البطالة العالمي، وأكثر من ضعف معدل البطالة في أمريكا اللاتينية، وهي المنطقة ذات البطالة الأعلى في العالم، إذ يبلغ المعدل فيها 10%، وثلاثة أضعاف معدل البطالة في منطقة اليورو البالغ 7.7%. أما أفريقيا شبه الصحراوية، فيبلغ معدل البطالة فيها 7.62%، يليها الاتحاد الأوروبي بمعدل 7.05% ثم بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بمعدل 6.34%، ثم جنوب آسيا بمعدل 5.79%، ثم أمريكا الشمالية بمعدل 5.7% وأخيرا منطقة شرق آسيا والبحر الكاريبي بمعدل 4.2%.
إيرادات مياه دجلة والفرات انخفضت بنسبة 50% خلال الأربعين سنة الماضية، وفق دراسة لخبير المياه ووزير الموارد المائية السابق، حسن الجنابي، نشرها مركز الإمارات للدراسات في أبريل الماضي، والسبب هو إقامة السدود في تركيا وإيران وسوريا، وحرف مسارات نهري الكارون والكرخة، الدوليين، اللذين ينبعان من الأراضي الإيرانية نحو الداخل الإيراني، إضافة إلى قطع المياه عن أربعين رافدا عابرا للحدود كانت تصب في نهر دجلة. ومع تصاعد الجفاف والتصحر، صار وضع العراق أكثر حرجا، خصوصا وأن المفاوضات مع إيران وتركيا حول ضمان حصة العراق المائية لم تتوصل إلى نتيجة، حسب مصادر رسمية.
بلغ عدد نفوس العراق 43.53 مليون نسمة وفق تقديرات البنك الدولي عام 2021، بينما قدرت مؤسسة (ماكروترند) العدد بـ44.5 مليون نسمة عام 2022، ويزداد سنويا بنسبة 2.21%، أو مليون نسمة، أي أن عدد السكان سيتجاوز 52 مليون بحلول عام 2030، في وقت تتقلص فيه المياه، وتنكمش المناطق القابلة للزراعة، وتتقلص أهمية النفط لأسباب عديدة، منها بيئية، ومنها سعي الدول الصناعية الحثيث لإيجاد بدائل للطاقة.
تقديرات الحكومة أشارت إلى أن العراق يحتاج إلى 71 مليار متر مكعب من المياه سنويا، بينما تشير التقديرات إلى أن إيرادات المياه بحلول عام 2035 لن تتجاوز 50 مليار متر مكعب في أفضل الأحوال، بينما يرتفع عدد السكان إلى 57 مليون نسمة، حسب نسبة الزيادة السنوية أعلاه.
تتحكم بالعراق منذ 12 عاما جماعات مسلحة تتشدق بالدين والمذهب والمقاومة وتحرير فلسطين، إضافة إلى خدع مبتكرة تجترحها حسب الحاجة، وهذه الجماعات لا هم لها سوى نهب ما تستطيع نهبه من أموال النفط. لا تكترث لمستقبل العراق مطلقا، فليس لديها مشروع وطني أو مشروع إدارة دولة.
معظم أفراد هذه الجماعات يخططون لأنفسهم وعائلاتهم وكيفية حماية مكتسباتهم وتعظيمها، وكثيرون منهم خططوا لمستقبلٍ في بلدان أخرى، وإلا ما معنى أن يغادر المسؤولون العراقيون الكبار، من رؤساء الوزارات إلى الوزراء والوكلاء والنواب، فور انتهاء مهامهم، إلى بلد آخر؟ رئيس الوزراء السابق غادر بعد أسبوع من انتهاء فترته، وكذلك فعل رؤساء وزراء ونواب رئيس جمهورية ووزراء ووكلاء وسفراء ونواب ورؤساء هيئات، علما أن معظمهم ينتمي إلى جماعات لديها أذرع مسلحة، ويمكنها أن تحميهم، لذلك لا يمكن تبرير مغادرتهم بالخوف على سلامتهم.
ومنذ عام 2003، تطورت في العراق طبقة طفيلية راكمت مئات الملايين من الدولارات خلال بضع سنين، وتفاقم الأمر بمرور الزمن إذ صارت أموال الدولة تُسرَق بالتريليونات، وتُحمَّل في شاحنات في وضح النهار، دون أن يعترضها أحد، وهذا ما حصل فيما سُمِّي بـ"سرقة القرن" التي حصلت في عهد الحكومة السابقة، ولم يحاسب المسؤولون عنها، لأن المشتركين في الحكومة هم أنفسهم مشتركون في السرقة.
كثيرون من أفراد هذه الطبقة الطفيلية، لا يستطيعون مغادرة العراق، بسبب الجرائم والانتهاكات التي ارتكبوها بحق العراقيين والأجانب، وقد شيدوا لهم صروحا في العراق، من فنادق ومولات وعقارات وقصور ومزارع وبحيرات إلى مصانع ووكالات سفر، وما إلى ذلك من مصالح وممتلكات، ولم يمتلكوا شيئا قبل سنوات قلائل.
المستقبل لا يبشر بخير لهؤلاء، خصوصا مع تزايد الفقر والبطالة، وتناقص أهمية النفط وتدني أسعاره. كل الدول المصدرة للنفط تدرك هذه الحقيقة، واحترست ضدها، وهيأت اقتصاداتها لأن تنمو وتزدهر بعيدا عن النفط، إلا العراق الذي ظل يعيش ليومه، ينفق عندما ترتفع أسعار النفط، ويشقى عندما تنخفض. في عهد النظام السابق، كانت الأموال تنفق على التسلح والحروب والقمع. والآن يحصل ما هو أسوأ، فبالإضافة إلى القمع والقتل والخطف والاعتقال وغياب الأمن والخدمات، فإن الأموال يتقاسمها قادة الجماعات المتنفذة، الذين يتشدقون بذرائع الدفاع عن الدين والمذهب والجهاد في سبيل الله!
كثيرون منهم يشعرون بالنشوة، لأنهم راكموا أموالا، وصاروا أثرياء وأقوياء، وسلِموا من طائلة القانون، لكن عليهم أن يقلقوا. فالمظلومون والفقراء، وهم الغالبية، لن يسكتوا، بل ليس لديهم ما يخسرونه إن هم ثاروا على هذه الجماعات التي نهبتهم وأفقرتهم وأذلتهم وجعلتهم متخلفين، بينما تتسابق شعوب العالم الأخرى من أجل التطور والتنمية الاقتصادية وتحسين الخدمات. لن ينشغل فقراء العراق وأحراره بالخزعبلات التي يحاول افتعالها المتحاصصون في السلطة كلما نضبت حِيَلُهم من أجل إلهاء الناس عن قضاياهم الرئيسية.
لقد طال ليل العراق، وكلما اشتد الظلام، تنامى غضب المظلومين، ولابد لليل أن ينجلي، فهكذا قضت سنن الحياة عبر التأريخ، والمُغَفَّل من لا يتعلم الدرس.