في يونيو 1967 كانت طرابلس تحترق بسبب الجموع الغاضبة، متأثّرةً بالآلة الإعلامية المصرية، في حرب الأيام الستّة، بدعوى تورّط الغرب في دعم إسرائيل.
فلم تجد الجماهير ما تعبّر به عن استنكارها سوى الثأر، لا من الجالية العبريّة الشقيّة وحدها، ولكن من كل ما متّ بصلة للهويّة الأجنبيّة، سيّما الإيطالية، فكان الغوغاء يحطّمون المحال التجارية، ويحرقون الممتلكات، والمزارع، ويعتدون على أناسٍ كانوا دوماً مواطنين، لا مستوطنين، فلم ينجُ من السّعار الشّرس حتّى ما كان إلى وقتٍ قريب رمزاً وطنيّاً.
وها هي التظاهرة المحمومة تتّجه إلى تمثال «سبتيموس سفيروس»، المنتصب في ميدان الشهداء، في نيّة للإطاحة به، فإذا بطيفٍ هزيل، هشّ البُنية، قصير القامة، يعترض السيل المسعور، دفاعاً عن الجرم البرونزي الصارم، الملوّح بيده في الفراغ، كأنه يستوقف المدّ الجنوني الأعمى، ليعيده إلى الصواب، فلم يهرع لنصرته سوى هذا الطيف المجهول، الذي دخل في عراكٍ مع الجموع، مردّداً بأعلى صوت، كأنّه يستعين بتعويذة: «سبتيموس ليبي! سبتيموس سفيروس ليبي!»، وكان عليه أن يحتمل صنوف العنف كي يوقظ في الجماهير المسعورة الضمير، الذي أماتته حقن التلقين الأيديولوجي، ليحقّق الخلاص لذلك الرمز الوطني، سليل «ليبتس ماغنا»، الذي تغنّى التاريخ بحكمته، ليتبوّأ يوماً منزلة إمبراطور روما.
أنقذ المؤرّخ «مسعود فشيكة» في ذلك اليوم تمثال «سفيروس» من بطش الدهماء، ولكن مريد التاريخ لم يستطع أن ينقذ الجالية العبرية من عُصاب التعصّب، وها هي المدينة التي احتضنت أبناء الدياسبورا الأسطورية، منذ ألوف الأعوام، تقفل بوّابة الـ«غيتّو» الأكبر، ثم بوّابة الـ«غيتّو» الأصغر في العاصمة طرابلس، لتعود أمّة الشتات إلى رحاب الشّتات، كأن الإغتراب قدر كل من طلب استعادة فردوسٍ ضاع، فخان الوصايا المبثوثة في سفر الخروج، الموجّهة للفرعون: «أطلق شعبي ليعبدني في البرّية»، فطلبت أمّة الشتات استعادة الفردوس الضائع في صيغة «أرض الميعاد»، بدل أن تلبّي نداء الربوبيّة، بالصلاة في ربوع البريّة!
اغتربت الجالية اليهودية عن واقع ليبيا بحرف هذه التجربة الموجعة، لتخون الدولة وعدها القاضي بوجوب المحافظة على البند المنصوص عليه في وثيقة استقلال ليبيا، الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1949، الذي حدّد سكّان البلاد في أربع هويّات، هي: العرب والأمازيغ واليهود والطليان. وها هي الأغلبية تسطو على حقّ أوّل أقلية، وهي اليهود.
وإذا كانت السلطات الملَكية قد تساهلت في أداء واجبها في الدفاع عن الأقليّة العبرية، فإن دور الأقلية الإيطالية لم يتأخّر أيضاً. وها هي سلطات النظام الجمهوري تعمد إلى التخلّص من هذه الجالية بمرسوم، بدعوى مسئولية هؤلاء على مآسي الحكم الفاشي في حقّ الليبيين زمن الاستعمار الإيطالي. ولم يكن أي نظام سياسي مؤدلج أن يتسامح في حقّ بقية الهويات، بما في ذلك العربية نفسها، ما أن يعتنق نزعةً شموليّة.
فعندما يتأدلج الواقع، يغترب الحبّ عن الواقع، وعندما يغترب الحبّ من الواقع، يغدو كل شيء مباحاً، بما في ذلك كنس الناس من الواقع، هؤلاء الناس الذين كانوا، بمختلف هويّاتهم، الذخيرة التي تُغني هذا الواقع، لتحقّق السعادة لأهل هذا الواقع. فما يجب أن نفخر به ليس انتماء «سبتيموس سفيروس» إلى ملّة قدماء الليبيين، لأنه حكم روما، ولكن الأهم هو الخصال التي تحلّى بها هذا الامبراطور كي يتأهّل لحكم روما، مما يعني أن الرهان على القيمة التي حققها، وليس المنزلة التي تبوّأها. مما سيعني أن إنساناً تنويرياً عظيماً في مقام «أبولييوس» هو حُجّة أقوى في العلاقة بيننا، عندما نريد أن نتغنّى بقيمنا المشتركة، لا لأن ما فعله برواية «الجحش الذهبي» كان فتحاً مبيناً في فنّ مجيد وجديد وحسب، ولكن لأنه سَبقَ زمنه بأكثر من ألفي سنة باستحداث ما اصطُلح على تسميته بـ «الواقعية السحرية»، التي أُتّهم بسببها بممارسة السّحر، ليضطرّ للترافع دفاعاً عن نفسه في كتابه «دفاع صبراتة»، ليتبنّى الأدب العالمي هذا النهج بوصفه ثورة في جنس الرواية.
ليس هذا وحسب، ولكن الحكمة أيضاً لعبت دوراً في تلقيننا درس ما معنى أن يتبادل الغالب والمغلوب الأدوار، لأن وجود الحكمة في حدّ ذاته تجديفٌ في حقّ الغلَبة كمفهوم. فهل يُعقل أن نستنزل لقباً معيباً كـ«المغلوب» في حقّ قامة في مقام القدّيس «أوغسطين»، لمجرّد أنه سليل نوميديا، وهو العرّاب الحقيقي للديانة المسيحية برمّتها من خلال عملٍ مرجعيٍّ في حجم «ملكوت الربّ»؟
فـ«أوغسطين» مواطن عالمي حتى في منطق الحرف، فكيف إذا حكّمنا في شأنه سلطان الدين؟ فهو سليل أمازيغ الصحراء، الذي انتقل إلى حاضرة نوميديا، لينتقل إلى قرطاجة، فلا يتوقّف في بحثه عن حقيقته كإنسان، في حقيقته كإيمان، حتّى حلّ في روما، ليبعث هناك نفسه من جديد في اللسان اللاتيني، المسكون بهاجس تغيير ما بالنفس، لغرض تحرير ما بالواقع الإنساني، لا الواقع المكاني، الذي اعتدنا أن نسمّيه وطناً، ولو لم يفلح في تغيير ما بنفسه، لما استطاع أن يجود بالأُحجية التي حررت الإنسان من الأوهام، ليسكن تلك الحقيقة التي تغنَّى بها حكيم «الثاو»: «مَن عرف الحقيقة في الصباح، في المساء يستطيع أن يموت». ليستحق «أوغسطين» أن يكون خلَفاً لحكيم نوميديا القديم «مسّينسّا»، الذي حالف الرومان، لكي يستعيد وطنه نوميديا الذي انتزعته منه قرطاجة، ليقيم في حاضرة إيبيريا ما قبل التاريخ «تاراكّو» برفقة صديقه القائد الأسطوري «سكيبو»، الذي عاهده بأن يحقق له حلم استعادة وطنه الضائع، ولم يخذله، لأن الإنسان الذي اغترب هو ماردٌ لا يُقهَر، لأن الاغتراب هو حجر الحكمة القادر على تحويل الجلّاد ضحيّةً، كما يحيل الضحيّة جلّاداً، وإلّا لما صنع من «أناي» بطلاً بعث وطناً من رماد حريق طروادة، كما مسخ جلّاد طروادة «أوليس» ضحيّة، كان عليها أن تتعذّب بسياط الإغتراب زمناً، قبل أن تنال غفران الإله، الذي لقّنه الدرس عن معنى أن يحيا الإنسان بلا وطن، وهو الذي سخّر مواهبه كلها في سبيل أن يحرم الأغيار من وجود الوطن، في حين صنع «أناي» وطناً من أنقاض عدم.
فبقدر ما كانت هجرة «أوليس» قصاصاً، بقدر ما صارت هجرة «أناي» خلاصاً. ولو لم يكن الأمر كذلك لما صارت الهجرة في حياة أسلافي تجربة نبوّة، لأرِثها عنهم في صحراء هذا العالم، البديل التراجيدي لفردوس صحرائي الكبرى التي غرّبوني عنها جبراً، لأجد في الشاطيء الآخر في انتظاري «سينيكا» ليلعب في تجربتي دور شيخ الطريقة، ليصير لي دليلاً إلى المحطّة السابعة في معراج خروجي الغيبيّ، لأحلّ أخيراً ضيفاً في رحاب «تاراكّو» الرومانية، التي كانت قبل التاريخ ملاذاً أجار أسلافي من جور أهل الجوار، لأن طبيعة المخلوق الفاني، هي التي قضت بأن يبطش الإنسان بجاره الإنسان عندما تتساهل في حقّه الحظوظ، كلّما جادت عليه بطول البقاء في عرش الحكم، كما حدث في العلاقة بين قرطاجة الوافدة على الوطن، وضحيّتها نوميديا كصاحبة وطن، إعتادت أن تستضيف في صحرائها الغرباء، يقيناً منها أنها تستضيف في الغرباء ملائكةً، كما تحرّض حكمة الأجيال، وها هي تجود على الشقيّ «أوليس» بالخلاص، مجسّداً في ترياق نبتة «سلفيوم» السحرية، وفي صيغة أخرى عشبة «لوتس»، تماماً كما جادت على خلَفه «أناي» في هذا الوطن السخيّ بترياق أعظم مفعولاً، وهو حبّ «ديدونا»، ليكون له زاداً في مواصلة رحلة بحثه عن فردوسه الضائع، فحقّ لسليل هذه الأرض الطيّبة، وهو القدّيس «أوغسطين»، أن يستنزل في أهلها لقب: «الملّة الإلهيّة»، بالمقارنة مع الأمم الأخرى الدنيوية؛ لأن وطناً ملفّقاً من طريقٍ، لجديرٌ بأن يلقّن الأجيال درس الحرية، ليتحوّل الوطن ملاذاً لكل مُريد حقيقة، وإلّا لما كانت الصحراء مسقط رأس التكوين، وفردوس النبوّة.