عبر تاريخها الطويل منذ بدايتها كفعل عنف منظم في الأزمنة القديمة مرت الحرب بمراحل متعددة من التطور، وغطت المعارك بين القوات المتحاربة كل أرجاء العالم خلال تتابع العصور، ومع كل خطوة كان تحقق فيها الحضارة تقدما كانت الحرب تطور أدواتها المادية، وأساليب ممارسة الصراع.

لأن الحرب دائما ما تتغير كيفيا مع التحولات السياسية والاجتماعية وضع الفيلسوف والقائد العسكري الصيني "صن تسو" أول إطار نظري متكامل عن الحرب، تم تتويجه في كتابه الشهير "فن الحرب"، خلال فترة تغير نسق العلاقات من مجتمع العبيد إلى المجتمع الإقطاعي في الصين.

فيما بعد شهدت العصور الحديثة زخما في تحليل ظاهرة الحرب، وتبدياتها في الواقع العسكري، ومنها نظرية أجيال الحروب التي اتجهت إلى حقبة التاريخ الحديث، وتجلت مراحلها في مدرسة التأسيس الأميركية التي وضع "العقيد وليم إس. ليند" لبنتها الأولى، وسوف نتناول في هذا المقال الأجيال الأربعة الأولى، التي ترى تحليلات مدرسة النشأة أنها الأكثر استجابة لمتطلبات الضبط المنهجي.

الجيل الأول

استغرق هذا الجيل 212 سنة بدأت من عام 1648 إلى عام 1860 واتسم بطبيعة نظامية؛ ذات انضباط للقوات المتحاربة في ميدان المعركة، وتجلت مظاهر هذا الجيل في هيرارك وتسلسل القيادات والرتب والدرجات الأخرى، والزى الموحد المميز للقوات، وأداء التحية العسكرية، وكلها قواعد تعزز ثقافة النظام لدى الجيش.

كانت المعارك بين القوات تتم بالمواجهة المباشرة بين المتحاربين، حيث يتم تنظيم القوات أفقيا في صف أمامي تتكرر خلفه الصفوف في تواز بالعمق؛ يحدد عددها حجم القوات، وطول خط المواجهة على الأرض، ويتصف ميدان المعركة في هذا الجيل بالمساحة الجغرافية المحددة، وتستغرق المعركة زمانيا فترة قصيرة يمكن أن تمتد نادرا في حدها الأقصى لفترة متوسطة، لأن دوام الاشتباك في هذا الجيل كان يعنى كما لو أن القادة يدفعون بالجنود إلى التهلكة.

الجيل الثاني

شهد هذا الجيل استعادة لثقافة النظام التي تخلخلت في نهايات الجيل الأول وبدايات الجيل الثاني، بسبب الحروب الأهلية وحروب الغزوات الاستعمارية.. ونتيجة اعتماد أبنية الخطط على قوة النيران، وتنفيذها في إطار مركزي ومتزامن، ساعد هذا على حل تناقضات بداية هذا الجيل، ما رسخ نظامية الانضباط؛ التي زادت حتميتها بمرور الوقت نتيجة سرعة تحرك القوات، وظهور أسلحة جديدة قادرة على تكثيف حجم النيران باستخدام المدفعية، التي تدمر مواقع العدو المنتظمة قبل الاشتباك المباشر معه على الأرض.

هذا ما عبر عنه الجنرال والمفكر الاستراتيجي الفرنسي "فوش" بمقولة شهيرة "المدفعية تفتح والمشاة يحتلون"، ونتيجة هذا التطور تراجع الحشد الكثيف للقوات المترجلة في ميادين القتال.. تلك العوامل التي طرأت على طبيعة العمليات العسكرية أصبحت مدعاة لأن تدار المعارك بخطط وأوامر مفصلة، لضبط الإيقاع بين القوات المشتبكة من المدفعية والمشاة، وأخيرا في نهاية الحرب العالمية الأولى التي انتهى معها هذا الجيل ظهرت الدبابات وأيضا القوات الجوية كقوة نيران مؤثرة.

الجيل الثالث

يرتبط هذا الجيل ارتباطا وثيقا بالحرب العالمية الثانية، التي شهدت تحولات كبرى في ثلاثة مجالات كان أولها المناورة الفائقة في تحريك القوات، ومن ثم تحقيق المفاجأة؛ التي كان نموذجها الرئيسي اللافت الحرب الخاطفة التي اتبعتها القوات الألمانية، أما المجال الثاني فقد تمثل في قوة النيران مقارنة مع الجيلين السابقين، نتيجة التطور التكنولوجي الذى أحدث نقلة نوعية كبيرة في المدفع والدبابة والطائرة القاذفة، وأخيرا فقد تمثل المجال الثالث في التطور غير المسبوق لوسائل الاتصال؛ التي ساهمت جذريا في تعاظم قدرات تحريك التشكيلات والسيطرة عليها، والمناورة بالقوات والنيران وإمكانية أن تحقق القوات الأقل عددا نتائج أفضل.

أسفرت العوامل السابقة أيضا في تغيير أساليب القيادة والسيطرة في مسارح العمليات، بإتاحة مساحة أكبر من التصرف للقادة الميدانيين في إدارة المعارك، كما اتصف هذا الجيل بتغيرات راديكالية في تكتيكات استخدام القوات، ونجحت الحرب الخاطفة في إحداث تصدع لأنساق القوات المعادية واحتياطياتها، وانهيار الدفاعات مهما بلغت قوة تحصينها، واتسم الجيل الثالث بالتنقيح المستمر للخطط في المواجهات قبل وأثناء المعارك، التي يمكن أن تستمر خلال الحرب لمدى زمني أطول من الجيلين السابقين.

الجيل الرابع

أحدث هذا الجيل قطيعة مع التراث الذى ارتبط بالحروب التقليدية، نتيجة تراجع مساحات الفصل بين الحروب النظامية وغير النظامية، ويتصف هذا الجيل بالصراعات المعقدة التي قد تمتد طويلا، وواقعيا أسدل هذا الجيل الستار - ما بعد صلح ويستفاليا - على استقرار العلاقة في النزاعات العسكرية، والتحول إلى نمط جديد يتسم بالتغير الجذري في طبيعة الحرب، بسبب فقدان حكومات الدول لاحتكار قوة السلاح والمعلومات، مما أتاح للتنظيمات المارقة إمكانية تنفيذ استراتيجية لهدم الدولة من الداخل باستمرار استنزافها في محاولة لتفتيتها ثم انهيارها.

تمارس العناصر غير المسلحة في التنظيمات المناوئة أو المتمردة من سياسيين وعقائديين دورا مهما في حروب هذا الجيل، من خلال أساليب مدروسة من القصف الذهني.. يحدد الباحثان "مايكل ارتيلي وريتشارد ديكرو" مقومات هذه الحرب بالإشارة إلى أنها ذات محتوى يجمع بين أصول الحرب التقليدية، وحروب العصابات، والإرهاب، يتبدى رأى الباحثان باللجوء إلى استغلال تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة المتقدمة التي تمكن التنظيمات من التلاعب بالحقائق، ومن المعروف أنه إذا ارتبط الطرف المناوئ في الصراع بالإرهاب فإنه يوظف أيديولوجيا غالبا ما تكون عابرة للدولة القومية، فكريا وتنظيميا.

بغرض هزيمة الإرادة السياسية للدولة المستهدفة تلجأ العناصر المتمردة إلى تكتيكات مسلحة أو غير ضد البنى التحتية، على الأصعدة الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، مع استهداف المدنيين العزل، ووسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.

ودائما ما تتبع القوة غير النظامية أسلوب الخلايا العنقودية، وعدم تبنى تسلسل هرمي صارم، مما يتيح مرونة عند تنفيذ الأعمال المسلحة، كما يسعى الإرهابيون دائما إلى محاولة طمس الحدود بينهم والمدنيين، لتوسيع حاضنة لهم، من خلال تدجين أفراد غير مسيسين وربما لا يتبنون أيديولوجيتهم نتيجة تعرضهم للخداع الإعلامي، وهذا ما يفاقم من خلخة الروح المعنوية ويهز ثوابت الدولة.

تجدر الإشارة إلى أن الحكم الرشيد من الوسائل الناجعة التي تساعد في التصدي لحروب الجيل الرابع، ولاسيما أنها لم تعد تقتصر على أطراف غير نظامية فقط، إذ تساند التنظيمات المناوئة دول معادية؛ بالدعم المادي واللوجيستي، وقد تتدخل الدول المعادية مباشرة عبر توظيف منظمات المجتمع المدني، والجمعيات الأهلية، وتحريك ضغوط من المؤسسات الدولية.