يشهد الغرب سباقا محموما لاستغلال "معادن الأرض النادرة" كالليثيوم والنيكل والكوبالت والغرافيت، الضرورية للصناعات الحديثة، وكسر الاحتكار الصيني لها.

وتتصدى أستراليا لهذه المهمة، مستعينة بالولايات المتحدة واليابان، لأنها غنية بهذه المعادن ولديها قدرات إنتاجية وتصنيعية متخصصة، ويمكنها أن تنتجها وتعاملها على الأمد البعيد عند توفر الاستثمارات اللازمة.

واستنادا إلى مصادر عديدة، فإن الصين تستحوذ على إنتاج ومعاملة وتنقية واستيراد وتصدير هذه المعادن النادرة، إذ تجري فيها 63 بالمئة من عمليات الاستخراج العالمية، و85 بالمئة من عمليات المعاملة، و92 بالمئة من إنتاج المعادن المغناطيسية النادرة.

كما تعد الصين الأولى عالميا في معاملة الليثيوم، الأمر الذي جعل العديد من الدول الغربية ودول جنوب شرق آسيا، المرتابة من توجهات الصين السياسية والاستراتيجية، تسعى للحصول على هذه المعادن من مصادر أخرى، في ضوء تدهور العلاقات بين الصين والتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة.

وقد سميت هذه المعادن، وعددها 16 معدنا، بـ"معادن الأرض النادرة" أو "rare earth minerals"، لأنها منتشرة في الأرض وغير متكدسة في حقول أو مناطق محددة، كما هي حال المعادن الأخرى، التي يمكن العثور عليها متراكمة. وقد سميت نادرة، رغم توفرِها حاليا، لأنها منتشرة في الأرض ويصعب استخراجها، خصوصا وأنها تختلط بمعادن أخرى مشعة، كاليورانيوم، وكذلك لأن العلماء اعتقدوا سابقا بأنها نادرة.

وتعتبر أستراليا وإندونيسيا وكازاخستان من البلدان التي تتوفر فيها هذه المعادن، وقد وصفت وزيرة المصادر الطبيعية الأسترالية مادلين كينغ احتكار الصين لهذه المعادن بأنه "تحد استراتيجي"، ما يعني أن الهدف من تطوير إنتاج ومعاملة هذه المعادن في أستراليا، يتعدى المنفعة المادية أو الجدوى الاقتصادية إلى الضرورة الاستراتيجية، كي لا تبقى الدول الغربية بحاجة إلى الصين التي تنتج وتعامل هذه المعادن المهمة، بينما أهملها الغربيون بسبب سهولة الحصول عليها من الصين بأسعار متدنية.

ويستخدم النيكل في طلي المعادن، كالفولاذ، لحمايتها من الصدأ، لذلك يستخدم في صناعة الأواني والأفران، وفي مصافي تحلية المياه المالحة كي تصلح للاستخدام البشري. كما يستخدم في التدريع وطلي الصفائح الواقية، إضافة إلى صناعة البطاريات والعملات النقدية، حتى صارت عملة "5 سنتات" تسمى "النيكل" في أميركا، ويدخل النيكل أيضا في تصنيع الزيوت النباتية.

أما الليثيوم فيعتبر من أهم هذه العناصر، إذ يدخل في العديد من المجالات الصناعية والعلاجية، لذلك تكتسب الدول القادرة على إنتاجه أهمية خاصة في هذا العصر، خصوصا مع اشتداد التنافس الغربي الصيني في المجالات كافة، واستنادا إلى المعلومات التي نشرتها الجمعية الملكية البريطانية للكيمياء "RSC"، فإن عنصر الليثيوم لا يستخدم بمفرده، بل يصنع على شكل سبائك تدخل فيها معادن أخرى، مثل الألمنيوم والمنغنيز.

وتستخدم سبائك الألمنيوم والليثيوم في صناعة هياكل الطائرات والقطارات السريعة والمركبات والدراجات الهوائية، التي تزداد أهميتها عالميا، مع اشتداد الازدحامات المرورية وازدياد كثافة التلوث البيئي، الناتج عن الانبعاثات الغازية المنطلقة من عوادم السيارات والمركبات. وتستخدم سبائك الليثيوم والمنغنيز في صناعة الصفائح المدرعة، خصوصا في الصناعات العسكرية، بينما يستخدم ثاني أوكسيد الليثيوم في صناعة أنواع خاصة من الزجاج والسيراميك الزجاجي.

ويستخدم كلوريد الليثيوم في صناعة المكيِفات الهوائية وأنظمة التجفيف الصناعية، بينما تستخدم أملاح الليثيوم في صناعة سوائل وغازات التزليق والتشحيم المختلفة، ويستخدم هيدريد الليثيوم لخزن الهيدروجين كوقود، أما كربونات الليثيوم فتستخدم في صناعة الأدوية لعلاج حالات الكآبة والهوس والاعتلال وباقي الأمراض النفسية.

وتدخل "معادن الأرض النادرة" في الصناعات العسكرية المتطورة، وكذلك في صناعة الهواتف المحمولة والعديد من التقنيات الرقمية، إضافة إلى توربينات الرياح والبطاريات والسيارات الكهربائية. ويقول خبراء المناخ إنه لا يمكن إحداث التحسين المنشود في المناخ دون استغلال هذه العناصر وتوظيفها في مواجهة التغير المناخي.

وتعتبر أستراليا المنتج الأكبر لعنصر الليثيوم في العالم، والثالث لعنصر الكوبالت، غير أنها لا تقوم بمعاملة هذه المعادن بكميات كافية حاليا، بحيث تسد حاجة الدول الغربية، لكنها تأمل أن تكون منتجا مهما ومعامِلا متقدما بحلول عام 2030. وترى وزيرة الموارد الطبيعية الأسترالية مادلين كينغ، أن أستراليا قادرة على أن تلعب دورا في توفير إمدادات مستمرة ومضمونة لهذه المعادن الضرورية.

واستنادا إلى مجلة "إيكونوميست" الاقتصادية البريطانية، فإن أستراليا خصصت ملياري دولار أسترالي "1.335 مليار دولار أميركي"، للبدء بمشاريع إنتاج ومعاملة المعادن ذات الأهمية الاستراتيجية، بما فيها المعادن النادرة الأخرى، و500 مليون دولار "333 مليون دولار أميركي" إضافية، لمشاريع أخرى في ظل استراتيجية جديدة. وتعتبِر الحكومة الأسترالية هذه الاستثمارات ضرورية للأمن الوطني الأسترالي، لذلك منعت شركة صينية من زيادة أسهمها في شركة أسترالية لاستخراج "معادن الأرض النادرة"، لضرورات الأمن الوطني.

أما كوريا الجنوبية فلديها خططها لتقليص الاعتماد على الصين فيما يتعلق بإمداداتها المعدنية، من 80 بالمئة حاليا إلى 50 بالمئة بحلول عام 2030، وتتضمن هذه الخطط المزيد من الاستثمار في هذا المجال، وكذلك إعادة تدوير المعادن المستهلكة للتعويض جزئيا عن استيرادها، إضافة إلى إبرامها شراكات مع أستراليا والاتحاد الأوروبي وإندونيسيا وكازاخستان. كما انضمت أيضا إلى تحالف متعدد الأطراف بقيادة الولايات المتحدة، أعلن عنه العام الماضي تحت اسم "الشراكة من أجل تأمين المعادن". الهند وتايوان ودول أخرى تسعى أيضا إلى تأمين المعادن الضرورية التي تحتاجها صناعاتها من مصادر أخرى غير الصين.

المحفز الأول لكل هذه الجهود والاستثمارات هو احتكار الصين لإنتاج ومعاملة وتنقية هذه المعادن. وتعزز بكين من هذا الاحتكار من خلال خفض الأسعار بهدف إعاقة الدول الأخرى من التنافس على إنتاج ومعاملة هذه المعادن، الأمر الذي دفع الدول الغربية لأن تعتبر انتاجها ومعاملتها إجراء استراتيجيا يتعلق بضرورات الأمن الوطني. وما زاد من أهمية هذه الجهود وعجّل باتخاذ خطوات سريعة لتأمين المعادن الضرورية من مصادر أخرى، استخدام الصين هذه الميزة الاقتصادية سلاحا ضد خصومها.

وقد استخدمت هذا السلاح في العام الماضي، عندما منعت تصدير المعادن النادرة لشركتين أميركيتين، هما "ريثيون تكنولوجيز ولوكهيد مارتن"، احتجاجا على تزويد الولايات المتحدة تايوان بالأسلحة. وقد فعلت روسيا الشيء نفسه عندما منعت إمدادات الغاز عن الأوروبيين بسبب موقفهم المناهض لغزوها أوكرانيا. ومن الجدير بالذكر أن الغربيين يشيرون دائما إلى إيقاف الدول العربية المصدرة للنفط أثناء حرب أكتوبر عام 1973، امدادات النفط إلى الدول الغربية، كوسيلة للضغط على الدول المساندة لإسرائيل، الأمر الذي جعلهم يفكرون ببدائل للوقود الأحفوري، لكن من دون جدوى، رغم أنهم لم يعتبروا العرب أعداء لهم كما يفعلون حاليا مع الصينيين والروس.

وكانت اليابان أول من انتبه إلى خطورة الاعتماد على الصين في مجال المعادن النادرة، وذلك حينما حجبتها عنها عام 2010 عندما اختلف البلدان على عائدية بعض الجزر الصغيرة. لذلك تعاقدت اليابان مع شركة "ليناس" الأسترالية لإنتاج المعادن الأرضية النادرة، محفزة إياها عبر تقديم قروض ميسرة، وكان رد الصين على الإجراء الياباني إغراق السوق بالمعادن النادرة المعامَلة بأسعار منخفضة، من أجل دفع الشركة الأسترالية إلى الإفلاس، لكنها صمدت بفضل الدعم الياباني لها.

المدير العام لشركة "ريثيون" الأميركية لصناعة الصواريخ الموجهة كريغ هيز، قال في تصريح لجريدة "فاينانشال تايمز" البريطانية الأسبوع الماضي، إن شركته، وهي الأكبر عالميا في مجال صناعة الصواريخ المتطورة، تعتمد على آلاف المجهزين ومعظمهم في الصين، وإن "فك الارتباط" بالصين في مجال المعادن الضرورية النادرة مستحيل حاليا، وأضاف: "قد نتمكن من تقليص المخاطرة بالاعتماد كليا على الصين، لكننا لن نتمكن من فك الارتباط بالصين".

وفي تعليق ساخر على تصريح هيز، قال مات ستولار رئيس تحرير مجلة "بيغ" الإخبارية مؤلف كتاب "غولايث" الذي يبحث الصراع بين الشركات الاحتكارية والأنظمة الديمقراطية، في تغريدة له على "تويتر"، إن "نتائج أي حرب محتملة مع الصين سوف تعتمد على قرار الصين بتزويدنا بالعتاد".

من الصعب على العالم الغربي أن ينافس الصين في انتاج ومعاملة المعادن النادرة حاليا لأسباب عديدة منها بيئية، ومنها الكلفة العالية للإنتاج والمعاملة والتنقية والفصل عن العناصر المشعة التي تختلط بها، والوقت الذي يتطلبه إنشاء بنية صناعية رصينة. الاستغناء عن الصين يحتاج إلى تخطيط صناعي طويل الأمد، كما قالت المدير العام لشركة "ليناس" الأسترالية لإنتاج المعادن النادرة أماندا لاكيز، لجريدة "فاينانشال رفيو" الأسترالية، فالصين وضعت استثمارات ضخمة في هذا المجال خلال الأعوام الثلاثين الماضية، في وقت كان الغربيون به سعداء للحصول عليها بأسعار متدنية، متجاهلين أهميتها الاستراتيجية.

وتنتقد لاكيز الحكومة الأسترالية لتحديدها "من هو الرابح ومن هو الخاسر" من الشركات في مجال إنتاج ومعاملة المعادن النادرة. وهي تلمح إلى تخصيص الحكومة الأسترالية مليار دولار أسترالي "668 مليون دولار أميركي" لشركة "إلوكا" لبناء أول مصفى للمعادن النادرة في أستراليا، بينما لم تتسلم "ليناس" سوى مساعدة متواضعة من الحكومة الأسترالية، رغم أنها أكبر شركة منتجة للمعادن النادرة في العالم خارج الصين.

وتمتلك "ليناس" مصنعا عملاقا في كوانتان في ماليزيا، لكنها تتعرض لضغوط من السلطات الماليزية تعيق الإنتاج والمعاملة، إذ منعتها، مثلا، من استيراد المواد المشعة اعتبارا من يوليو عام 2024. وكان معهد دراسات السياسات الاستراتيجية الأسترالي قد نشر دراسة تشير إلى أن مصاعب "ليناس" في ماليزيا، تقف وراءها حملة يشنها الحزب الشيوعي الصيني ضدها، لأنها صارت تنافس الشركات الصينية!

يبدو أن قضية المعادن الأساسية، أو "معادن الأرض النادرة"، صارت في غاية الأهمية الآن، خصوصا مع احتكار الصين لمعاملتها وانتاجها، واستخدامها سلاحا ضد خصومها، كما فعلت مع اليابان وشركتي "لوكهيد مارتن" و"ريثيون تكنولوجيز" الأميركيتين، ثم إغراقها الأسواق بهذه المعادن بأسعار دون سعرها الحقيقي، من أجل إعاقة التنافس بين الشركات العالمية في هذا المجال، وهذه مخالفة صريحة للوائح منظمة التجارة العالمية، خصوصا إن كانت الصين تبيع هذه المعادن بسعر أدنى من كلفة إنتاجها الحقيقية.

لا شك أن الصين أخطأت في استخدامها هذه الميزة الاقتصادية سلاحا ضد خصومها، لأنها نبهتهم إلى إحدى نقاط ضعفهم، تماما كما فعلت روسيا عندما منعت عنهم الغاز الطبيعي.

اشتداد التنافس العالمي صار عائقا أمام التكامل الاقتصادي والعولمة، بل أخذ يقود إلى التقوقع في محاور تناهض بعضها بعضا، إذ حلت المناهضة محل التعاون الدولي، الذي كان سببا مهما من أسباب التطور العلمي والتكنولوجي، وركيزة من ركائز السلم والأمن العالميين. قد يتمكن العالم الرأسمالي من التفوق في النهاية، لكن الثمن على المجتمع الدولي سيكون باهظا.