وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بدأ زيارة للصين هذا الأسبوع، ليس من أجل تطوير العلاقات أو تعميق الصداقة، وإنما من أجل "إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة" لتفادي سوء الفهم، كما أشارت الخارجية الأميركية في بيان حول فحوى مكالمة هاتفية جرت بين بلينكن ونظيره الصيني قبيل اللقاء.
لا توجد أوهام عند الصينيين أو الأميركيين، حول إمكانية حل الخلافات بين البلدين، أو التعاون لتطوير العلاقات، فالتنافس والشكوك المتبادلة هي الإطار العام للعلاقات بينهما، وهذا الوضع سوف يبقى مازال النظامان السياسيان متباينين.
فالثقة بين البلدين حاليا شبه معدومة، فهما يراقبان تحركات بعضهما الآخر عن كثب، ويتجسسان على بعضهما دون حرج، بل لم يعد هذا الامر خاضعا للنقاش، ولن يُبحث في لقاءات المسؤولين، ربما لأن النقاش فيه عقيم، ومهما اتفق الطرفان مبدئيا، فإنهما لن يطبقا ما اتفقا عليه عمليا.
هناك محطات أميركية لجمع المعلومات عن الصين في بلدان عديدة، بينما توجد محطة تجسس صينية في كوبا، والتي انطلق منها المنطاد (ذو الأغراض التجسسية)، الذي أسقطه صاروخ جو-جو منطلقا من طائرة أف 22، فوق ولاية ألاسكا في فبراير الماضي، والذي تسبب في تأجيل زيارة بلينكن إلى بكين. الصين بررت إطلاق المنطاد بأنه لجمع المعلومات المناخية! لكن الأميركيين لم يقبلوا هذه الحجة.
وسائل الإعلام الأميركية بثت مؤخرا تقارير بخصوص إنشاء الصين محطة سرية في كوبا لجمع المعلومات عن الولايات المتحدة. وقد طالب أعضاء الكونغرس من الحزبين الإدارة "باتخاذ خطوات لمنع هذا الخطر الجدي للأمن القومي والسيادة الأميركيين" كما قال مارك وورنر، رئيس لجنة الأمن في الكونغرس عن الحزب الديمقراطي، وأيده نائبه الجمهوري، ماركو روبيو.
أما رئيس لجنة الصين في الكونغرس مايك غالاهار، من الحزب الجمهوري، فقد اتهم إدارة بايدن بـ"طمس الحقيقة" لما سمّاه بـ"العدوان الصيني"، مستشهدا بخطاب الرئيس الديمقراطي جون كندي عام 1962، الذي قال فيه (هناك مسار واحد لن نختاره أبدا، وهو مسار الاستسلام أو الخنوع)، كما نقلت إذاعة "إن بي آر" الرسمية الأميركية.
غير أن الإدارة نفت ابتداءً وجود مثل هذا الشيء، لكنها اعترفت لاحقا بأن الصين تستخدم كوبا للتجسس عليها منذ عام 2019، ما يعني أن الأجهزة الأميركية تعلم بهذه التحركات، وهذا متوقع، فالولايات المتحدة لديها أجهزة مخابرات وجمع معلومات متطورة، تتفوق على كل الدول الأخرى.
لكن هذه الأنباء والآراء المتشنجة حول الصين، لم تمنع بلينكن من زيارتها، وهي الأولى لمسؤول أميركي للصين منذ خمس سنوات، من أجل بحث القضايا الخلافية ومد قنوات الاتصال بين الطرفين، والتي تعتبرها الولايات المتحدة في غاية الأهمية، لأن المقاطعة لا تخدم السلم والأمن العالميين، ولا تخدم مصلحة الشعبيين، فالتنافس والخلاف يجب ألا يعيقا استمرار التواصل، لأنه يزيد التفاهم ويمنع تفاقم الخلاف واحتمالات التصادم.
والحقيقة هي أن التنافس هو السمة السائدة بين كل دول العالم، مهما بلغ عمق الصداقة والتقارب والمصالح المشتركة بينها. العلاقات الدولية لا تبنى على العواطف أو الحب والوفاء وسمو الأخلاق، والصداقات الشخصية بين الزعماء، مطلقا وأبدا. فالدول في العصر الحديث هي تماما كالشركات، أو المتاجر، تتنافس من أجل تحقيق مكاسب وأرباح أكبر وانتشار أوسع، من أجل خدمة المساهمين والعاملين فيها. أهدافها لا تتعدى حماية أنفسها من الأخطار المحتملة وتحقيق أفضل المكاسب وأعلى الأرباح، وإن كان على حساب المنافسين.
هذه الحقيقة لا تغيب عن السياسيين والمسؤولين في معظم دول العالم، باستثناء الدول المبتلاة برابط الولاء الأيديولوجي أو الديني أو الطائفي، الذي يأتي دون شك على حساب مصلحة الشعوب، وفي النهاية يؤدي إلى الإضرار بها وتقهقر تقدمها، وقد رأينا أن الدول القائمة على الأيديولوجية، أو التي تبني سياساتها على الانسجام الأيديولوجي أو الديني، لا تدوم طويلا، وإن استمرت لفترات طويلة، فإن ذلك يعود إلى ممارسة الاضطهاد، أو تكيُّف المجتمع لتقبل الوضع الراهن.
الأميركيون أعلنوا أنهم لن يساوموا في القضايا الرئيسية، وهي فرضهم قيودا على تصدير الموصلات المتطورة للصين، واستمرار زيارات أعضاء الكونغرس لتايوان، وفرض عقوبات على المسؤولين الصينيين المنتهكِين لحقوق الإنسان، وقالوا إنهم أوضحوا مخاوفهم من أعمال التجسس الموَجهة ضدهم، وأبلغوا الكوبيين بذلك، كما أبلغوا الدول الأخرى بأن الولايات المتحدة لن ترضى باستضافة أي محطات صينية لجمع المعلومات عن الولايات المتحدة.
النشاطات الصينية المتعلقة بجمع المعلومات، أو التجسس، على الولايات المتحدة، ليست جديدة هي الأخرى، بل وغير مستغربة. معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الجيش الحربية الأميركية، قال في تقرير له نشر عام 2011 إن الصين تستخدم ثلاث محطات تَنَصُّت في كوبا هي بيجوكال، وسانتياغو دي كوبا، ولورديس، وإنها تستخدمها لاعتراض رسائل الراديو وأجهزة الاتصال الأميركية، ولشن هجمات سيبرانية (تخريبية) على الولايات المتحدة، حسب قول تقرير المعهد.
وتعتبر محطة لورديس، الواقعة قرب العاصمة الكوبية هافانا، أكبر محطةِ تجسس خارجية سوفيتية، وقد استخدمتها روسيا حتى مطلع الألفية الثانية. واستنادا إلى الخبير في الشؤون الصينية، والأستاذ في جامعة جورج تاون، دنيس وايلدر، الذي كان أيضا مسؤولا في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، أن هذه المحطات يستخدمها الجيش الصيني، وأن هناك مواقع أخرى تستخدمها الصين في كوريا الشمالية وباكستان وجيبوتي، التي أسست الصين فيها أول قاعدة عسكرية لها عام 2017، وربما القاعدة الوحيدة المعروفة حتى الآن!
نشاطات جمع المعلومات لا تتعارض مع القانون الدولي، حسب الخبراء، وتستخدمها العديد من الدول، الأولى بينها الولايات المتحدة، التي لديها محطات لجمع المعلومات عن الصين وكوريا الشمالية، في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وأستراليا، وفق تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ 10 يونيو الجاري. كما تستخدمها الشركات العملاقة والمؤسسات ومراكز الأبحاث والجامعات، بل ويستخدمها حتى الأفراد في الدول الغربية فيما يعرف بـ(المحقق الخاص). لذلك لا يُتوقع أن تكون هذه القضية رئيسية في المباحثات بين البلدين، خصوصا وأن الصين تتهم الولايات المتحدة بالتدخل في شؤونها والتجسس عليها.
لكن الأمر سيكون مختلفا لو أن القضية امتدت لتشمل بناء قواعد عسكرية، فهذه ستكون خطيرة، وبالتأكيد لن تتساهل الولايات المتحدة بشأنها، ولا يمكن نسيان ردة الفعل الأميركية الغاضبة عندما اكتشفت أن الاتحاد السوفيتي نقل عددا من الصواريخ القادرة على إطلاق الرؤوس النووية إلى تسعة مواقع في كوبا، حينها أعلن الرئيس الأميركي جون كندي، تطويق كوبا جوا وبحرا، حتى تُزال تلك الصواريخ كليا. ولم تستمر الأزمة سوى خمسة أيام، وانتهت عندما قرر الاتحاد السوفيتي سحب الصواريخ. وقد كشف الروس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أنهم وضعوا 162 صاروخا نوويا في كوبا، وفق ما نشرته "مؤسسة التراث النووي"، وهو أكثر بكثير مما توهمه الأميركيون حينها.
دول العالم قلقة من احتمالات تفاقم الخلافات الأميركية الصينية، خصوصا في دول آسيا القريبة من الصين، والمتحالفة مع الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين وسنغافورة، التي لا تود الاصطفاف مع أحد الطرفين، علنا على الأقل، لأنها سوف تتضرر، بحكم علاقاتها الاقتصادية المثمرة مع الصين. لقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة (يورواسيا) أن 90 بالمئة من شعوب كل من كوريا الجنوبية والفلبين وسنغافورة، يشعرون بالقلق من احتمالات التصادم بين الولايات المتحدة والصين، وفي الوقت نفسه، فقد أبدى 66 بالمئة منهم رأيا إيجابيا بكلا البلدين.
لم تعد الصين لاعبا اقتصاديا عالميا فحسب، كما كانت خلال الأربعين عاما المنصرمة، بل صارت لاعبا سياسيا فاعلا، وقد رأينا آثار ذلك في الشرق الأوسط عندما لعبت دور الوسيط بين المملكة العربية السعودية وإيران. كما عبَّر مسؤولون صينيون عن رغبتهم في التوسط في الصراع العربي الإسرائيلي، لتخفيف حدة النزاع في المنطقة، وكذلك التدخل في الملف النووي الإيراني، لطمأنة دول المنطقة. لذلك فإن التنافس الأميركي الصيني لم يعد يقتصر على الاقتصاد، بل يتعداه إلى السياسة والعلاقات الدولية، التي لا شك أنها تسند التوجه الاقتصادي لأي دولة.
الاتصالات الأميركية الصينية تكثفت في الآونة الأخيرة، خصوصا منذ لقاء الرئيسيين الأميركي والصيني العام الماضي في بالي. في الأسابيع الأخيرة قام مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز، بزيارة إلى الصين والتقى بمسؤولين رفيعي المستوى، ولا شك أنه بحث معهم النشاطات السرية لأجهزتهم ضد الولايات المتحدة. كما التقى مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، مع الدبلوماسي الصيني رفيع المستوى وانغ يي، في مؤتمر للأمن العالمي في فينا الشهر الماضي، الأمر الذي حفَّز مسؤولين اقتصاديين صينيين لزيارة واشنطن والتباحث مع نظرائهم الأميركيين.
اللافت أن الرئيس الصيني، شي جينبينغ، استقبل بيل غيتس، رئيس مؤسسة مايكروسوفت العالمية، ما يشير إلى الأهمية القصوى التي توليها الصين للتعاون العلمي والتكنولوجي مع الولايات المتحدة. وسعت هذه اللقاءات للتوصل إلى طريقة للتفاهم وترتيب العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاستخبارية.
لكن الإجراءات العقابية التي يتخذها الطرفان تترك أثرها أيضا على إمكانية التعاون بينهما. فعلى سبيل المثال، رفض وزير الدفاع الصيني، لي سانغفو، اللقاء مع وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، لأن الولايات المتحدة فرضت عقوبات عليه عام 2018 في عهد الرئيس دونالد ترامب، بسبب شرائه معدات عسكرية من روسيا! وتشترط الصين رفع هذه العقوبات قبل أي لقاء له مع مسؤول أميركي.
يتحدث المسؤولون الصينيون، عما يسمونه بـ"إجماع بالي"، أو جملة القضايا التي يقولون إن الرئيسين شي وبايدن، اتفقا عليها أثناء لقائهما في إندونيسيا العام الماضي. لكن الولايات المتحدة تنفي وجود مثل هذه الاتفاقات، بل ترفض استخدام كلمة "إجماع" كما قال ناثانيل شير، الباحث في صندوق كارنيغي للسلام العالمي لإذاعة "إن بي آر".
كان المبدأ الذي سارت عليه العلاقات الأميركية الصينية، خلال السنوات الأخيرة هو "فك الارتباط" بالاقتصاد الصيني، أي عدم الاعتماد على المنتجات الصينية، من أجل ألا يبقى الغربيون أسرى للسياسات الصينية، كما وجدوا أنفسهم معتمدين على الطاقة الروسية عام 2022، التي أدى التخلي عنها فجأة إلى إحداث أزمات اقتصادية وسياسية في بلدانهم. "فك الارتباط" مبدأ صارم وغير عملي، بل ضار، فكيف يمكن مقاطعة دولة عظمى، واقتصاد كبير، كالاقتصاد الصيني، وهو الثاني عالميا؟
الآن هناك حديث عن التخلي عن هذا المنحى، وتبني سياسة جديدة تعتمد على مبدأ "عدم المخاطرة" بمعاداة الصين، لأن هناك خطورة في حصر الصين في زاوية. الأوروبيون متفقون مع التوجه الأميركي الأخير، إذ يرون أن من الضروري جدا التعاون مع الصين في قضايا الصحة والتغير المناخي والتجارة والاستقرار الاقتصادي العالمي، وهذه قضايا لا تتعارض مع ضرورات الأمن القومي.
لكن المرجح أن الغربيين، في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا، لن يتخلوا عن "فك الارتباط" فيما يتعلق بالقضايا الحساسة، خصوصا الاعتماد الكلي على الصادرات الصينية، لأن هذا الاتكال سيجعلهم غير قادرين على معاقبة الصين أو اتخاذ موقف ضدها، إن حصل خلاف عميق معها في القضايا الاستراتيجية. ويرى الأميركيون بوادر اعتدال في الموقف الصيني، يحفزها الانتعاش الاقتصادي الناتج عن رفع القيود المتعلقة بجائحة كورونا.