* مداخلة المؤلف في فعاليات معرض الرباط الدولي للكتاب 2023

1

موقف النخبة بشقيها العربي والأمازيغي من صحرائها عدمي، بل هو الموقف المعادي، الذي لا يكتفي الخطاب النخبوي بإشهاره، ولكنه يتباهى به إلى درجة التغني. فهل هو موقف من الصحراء في هويتها كطبيعة، أم أنه موقف ناجم عن رؤية في حقّ الصحراء في بعدها كقيمة روحية؟

الواقع أن التجديف لم يتوقف في حق هذا الوطن المهجور، الذي كان للإنسان العربي فردوس مقام، بل وتجربة بعث، مترجمة في حرف حقيقية حاسمة هي النبوة، التي استطاع بفضلها أن يحقق الأعجوبة التي حاجج بها الأمم، ومازال يحيا على مفعول بصمتها على المستوى الإنساني إلى اليوم، برغم زوال حجتها منذ قرون، بل استعار شهية مازوخية، بحيث لم يكتف بتسفيه كل ما متّ بصلة لهذه القارة الغيبية، ولكنه أبى إلا أن يلقن الأجيال درس استهتاره، على نحوٍ حول موقفه مكيدة حقيقية، اعتنقت نزعة تنميطية، مجبولة بروح سخرية، وضعت الصحراء في قفص اتهام، بوصفها المسئول الأول على تلك الجهالة، التي لعبت دور البطولة في استنزال الانتكاسة التي حاقت بالمجتمع، الملقبة في أدبيات هذه النخبة باسم التخلف، مما جرد الصحراء من رسالتها التاريخية، لتغترب عن حقيقتها الوجودية.

حدث هذا في زمن هيمنة أيديولوجيات الحداثة، الظامئة لاحتكار الحقيقة، لأن هذا الاحتكار هو أقصر الطرق لضمان الاستحواذ على ما كان ورما مميتا، آلى على نفسه في كل الأزمنة، أن يفترس في روح مريديه الروح كما الحال مع: السلطة! سلطة كانت الافيون الذي أدمنته النخب السياسية والثقافية على حد سواء، لتضحي بالحقيقة في كل مرة، لسبب بسيط، وهو استحالة أن يجتمع هذان القطبان (السلطة والحقيقة) في قلب إنسان.

من هذا المنطلق من الطبيعي أن تتحول الصحراء قربانا، لأنها الوطن الذي احتضن حقيقة الوجود في مرحلة سبقت احتضانه للقرين الآخر للحقيقة، وهو الحرية، ولو لم يكن الأمر كذلك لما اعترف لها المنطلق بماهيتها كمسقط رأس التكوين، مادام أول ما يولد، في عرف طبيعة الأشياء، هو أول ما يهرم. والصحراء هي شيخوخة المكان، الذي شهد الحضور في اليابسة، بعد أن تعرت اليابسة من غمر الأزل، لتستقبل في حرمها معجزة الخلق، مشفوعة، بلغز ألغازٍ هو الإنسان، الملفق من طينة تحالفت في صياغة حجتها محافل الأفلاك، فتهدهد هذا الصنيع أجيالا وأجيالا، روضت فيه الحس على العمل، كما روضت فيه الحدس لتلبية نداء الوحي، لينتج، بأعجوبة كالهجرة، الحرية، لأن الأخيرة كانت رأسمال ما نسمّيه بلغة اليوم نبوة. النبوة ككلمة السر في معجم الحقيقة. الحقيقة كمستودع ضاق بالقيم الخالدة، الأخلاقية والدينية والوجودية وحتى الجمالية، لتسري في وجدان الأجيال، التي شبت عن الطوق، وسعت في الأرض نحو كل الأركان، التي كانت آنذاك قد تحررت من سلطان الغمر أيضا، فصارت مهيأة لاستقبال الأجنة، لتبدأ القارة الأم، التي كانت للإنسان مهبط تكوين، ومسقط رأس، في التعري من لبوسها الطبيعية، لتستعير كنوزها، فتخفيها في باطنها، لتنكفئ حول نفسها، لأن القدمة شاءت لها أن تستريح من المخاض العصي، وترتضي لها اسما، بل قدرا، مترجما في لسان التكوين بكلمة "آفرا"، الدالة في لسان فلول ما تبقى من أبناء ملتها على: الصحراء، لتأتي أجيال أمم أخرى فتستعيره في كلمة: إفريقيا، نسبة إلى العلامة الوحيدة، الفارقة في وجود القارة وهي: الصحراء، المشفوعة تاليا بصفة ملحقة وهي: الكبرى! ومازال علماء الأمم إلى اليوم يتغنون بالحقيقة القائلة إن إفريقيا هي أم البشرية الأولى، برغم أنهم يجهلون إلى اليوم أيضا أن اسم إفريقيا ما هو إلا استعارة من اسم ما كان مهد الوجود كله وهو: الصحراء الكبرى.

سيرة أم الأمم "آفرا" هي ملحمة التكوين التي لم يكتب لها أن تكتب، وليس لشموس الحقيقة أن تسطع في واقع الأمم، ما لم تعترف الأمم بمفعول شمس "آفرا"، التي كان لها الفضل في وجود الأمم، بل ووجود الحقيقة في واقع الأمم، لتغدو صحراء "آفرا" الكبرى المستودع الحصين، المفوّض بتغذية أجيال الأمم بثروات الكنوز، المختزنة عميقا في واقعٍ لا يبدو إلا للبُلهاء خلاء، ولكنه لدهاة الحكمة الشهادة على امتلاء. إنها ذخيرة المكوس، المدفوعة بحرف الاغتراب عن واقع الواقع، عن وضعية الحضور في طبيعة المكان، لاستعادة الفردوس المفقود، الذي لا وجود له خارج: الروح! خسرت اليابسة البدئية غنيمتها كيابسة، طبيعتها كيابسة، ولكنها اكتسبت بالمقابل ما هو أنفس بما لا يقاس من طبيعة هي بالسليقة باطل أباطيل، اكتسبت قيمة الباطن الذي لا يفنى، لأنه البرهان الأخير على وجود حقيقة في عالمٍ، يرفض الاعتراف بوجود حقيقة، منذ نصب، في واقعه، السلطة معبودا بديلا للمعبود.

موقف النخبة بأقطابها من الصحراء وليد الموقف العدمي من الحقيقة، مادام أفيون السلطة هو الحلم في تجربة القطبين النخبويين (السياسي والثقافي)، لأنه في صلبه إنكار لظاهرة الصحراء كمستودع لذخيرة الروح، ولكن الموقف سوف يستعير وَجْدا محموما بصحراء الكنوز. بصحراء الثروات المادية، لأنها مكمل نفيس لأفيون السلطة، إذ ما نفع سلطان مفلس، وما جدوى سلطة لا تتسلح بأسنانٍ ملفقة من معدن الكنوز؟ فالصحراء، في يقين أشباح النخب، عدم، إذا تعلق الأمر بمارد الروح، ولكنها هنا المعبود، لا العدم، إذا تعلق الأمر بالوقود! ولما كانت لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فإن جودها لن يشفع لها القصاص المستخدم في حقها بوصفها فراغا. ومعاملتها كفراغ هو ما يجيز ممارسة صنوف التجديف في حقها، بجعلها مكبا للنفايات النووية أو الكيماوية، مادامت لا تتوجع ولا تبخل بعطاياها الدنيوية!

تجود الصحراء بالطاقة التي تغذي الوجود، ويأبى جشع السلطة الدنيوية إلا أن يغذي، في الصحراء، العدم الذي ينفي الوجود.

إنه النزال الخالد بين الجلاد والضحية.

فالمثير في تجربة تغريب الصحراء عن رأسمالها الروحي، هو ممارسة فرسان ينتمون بالهوية إلى واقع وطن صحراوي، كأنهم، بموقفهم المعادي، ينفون عن أنفسهم تهمة الانتماء إلى ملة الصحراء.