يبدو أن العقد الثالث من هذا القرن لن يمر إلا وقد أسدل الستار على المشهد الذي استمر لعقود في المسرح الدولي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ تشي تفاعلات موازين القوى عن تبدلات استراتيجية، سوف تفضي إلى تغيرات جذرية مقبلة في العلاقات والتحالفات، في مستوييها الدولي، ثم الإقليمي في أكثر من إقليم في العالم.
كان عامل الردع النووي يلعب سابقا دورا في التوازن بين القوتين العظميين؛ في المشهد الدولي؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، في ظل صراع أيديولوجي حاد بين الطرفين، واستقطاب كل طرف دول أخرى تحت مظلة التوافق الأيديولوجي، وبدرجة تالية تغليب المصالح، ومن ثم كانت القوة العسكرية كما في الحرب الكورية والفيتنامية والأفغانية والتوجه الأيديولوجي عاملان حاسمان في مسار النزاعات الدولية، نتيجة الاصطفاف خلف واشنطن أو موسكو.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت معادلة التوازن في العلاقات الدولية قائمة على التفاعل مع القطب الأوحد، أي الولايات المتحدة، التي خرجت ظافرة من النزال الذي تأجج بعد الحرب العالمية الثانية، لكن للتاريخ دهاء يأبى أن ينفرد بالمقعد الإمبراطوري دولة واحدة، وبالفعل بدأ حثيثا صعود قوى أخرى تزاحم في مضمار القمة.
لأسباب برجماتية بحتة تخلت القوى الصاعدة عن النزوعات السياسية ذات الطابع الأيديولوجي، بحثا عن تحقيق صعود لا يثير مماحكات سياسية؛ تستنفذ طاقة البناء والارتقاء؛ وتنحرف بها في مسارات فرعية لا طائل من ورائها، وإذا كانت الصين هي الدولة التي تعتلى المكانة الثانية في سلم القوى الكبرى بعد الولايات المتحدة الآن فمن الواضح أن التنين الصيني نظر للخلف، وتمعن في تجربة ليست بعيدة، عندما أدى الخلاف المذهبي مع الاتحاد السوفييتي وكلاهما وقتها أصحاب عقيدة سياسية واحدة، أدى إلى خسارة وتشتيت للقوة.
الواقع أن مسلك التنين في ثوبه الجديد بعد التخلي عن بدلة ماوتسي تونغ أصبح منهجا حديثا للعلاقات بين البلدان على الساحة الدولية، وليس هذا التوجه تقليدا للصين؛ بقدر ما هو إعادة حسابات لضرورات المصالح، وتحقيق التقدم، لقد أصبح الاقتصاد هو العامل الجوهري في الصلة بين الدول؛ بما يحقق لها من نمو وازدهار، لكن يبقى هذا العامل مرهونا بالقوة العسكرية في مضمار الكبار؛ والقوى الإقليمية الرئيسية في مناطق مختلفة من العالم، وهنا يجب التنبه إلى التغير الحاد الذي بدأ يطرأ على بنية القوة العسكرية، نتيجة الوضع الذي استجد مع التطور التكنولوجي الذي أظهر أسلحة جديدة، ستؤدى في المستقبل القريب إلى تغيير معادلات القوة في جانبها العسكري جذريا.
يموج العالم الآن بحالة من الحراك والمراجعة لأبعاد الخريطة السياسية الدولية، وتسعى قوى متعددة لحلحة الأوضاع الراهنة، ودون مبالغة يمكن القول أن مخاض السعي نحو نظام عالمي جديد قد بدأ في تمهيد مسارات تنهى تسيد القوى المتمكنة خلال الحقبة القريبة الفائتة، وأن تعدد الأقطاب أصبح الصيغة الواقعية التي بدأت تفرض نفسها على الساحة الدولية، لقد صفق تيار التحولات الاقتصادية والعسكرية باب التغيير لينفتح على مصراعيه مفسحا المجال لعلاقات وروابط أطلت برأسها بعيدا كتالوج الحرب الباردة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعيدا عن أي توجهات أيديولوجية، وبعيدا عن الاصطفافات الصفرية في العلاقات بين الدول.
يتمثل التحدي أمام القوى الساعية نحو المساهمة في بناء قواعد راسخة لتعدد الأقطاب في القدرة على تفكيك العولمة الراهنة، الاقتصادية أولا، ثم هذه العولمة في بعدها السياسي من خلال منظمات تتعاون في إطار احترام خصوصية الدولة القومية، بين أطراف تعمل على إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية، لكن بالدفع المتأني الذي يعمل على الانسلاخ التدريجي من القبول الكامل لمقتضيات العولمة الراهنة، ونزع مخالبها القابضة على القوانين والروابط المتسيدة والمتحكمة.
ويتبدى هذا المنهج في المجال الاقتصادي في تشكيلات منها على سبيل المثال مجموعة "البريكس" كنموذج دولي، واتفاقية "الكوميسا" كنموذج قاري، ومحاولة البرازيل والأرجنتين البحث عن طريق لإصدار عملة موحدة كنموذج إقليمي، وفى المجال السياسي تعتبر منظمة "شنغهاي" نموذجا لافتا نحو بناء توازن للبيئة السياسية الدولية، وفيما يرى بعض المراقبين في الغرب أن المنظمة نشأت لتحقيق التوازن مع حلف الناتو، ومنع التمدد الأميركي في المناطق المتاخمة لروسيا والصين وتحديدا في أسيا الوسطى، إلا أن الاتساع الذي طرأ على المنظمة تجاوز هذا الإقليم، ليبني بيتا آسيويا قادرا على تعزيز تعاون متعدد الأهداف ينفتح على نطاق جيوبولوتيكي للشراكة السياسية والأمنية والاقتصادية.
أما عن تأثير التحولات القاطعة للقوة العسكرية على العولمة فلهذا حديث آخر.