نجح التحالف الدولي ضد داعش في سنواته القليلة من تجفيف منابع التنظيم الأكثر دموية في منطقة الشرق الأوسط بعد القضاء على فلوله والحد من حركته، وعبر عمليات صيد ثمينة لقادته وعلى رأسهم أبوبكر البغدادي عام 2019، ما أدى إلى انحسار التنظيم وبداية أفوله من المشهد.
أدت هزائم داعش المتوالية وملاحقته في العراق وسوريا، إلى بحث التنظيم عن مواطن جديدة، فبدأت بعض قياداته في البحث عن ملاذات مختارة وبيئات جديدة يمكن للتنظيم إعادة إنتاج نفسه فيها، وكانت ليبيا، وتحديدا جنوبها الممتد نحو الصحراء الكبرى مجالا مناسبا لإنشاء كتائب متحركة يمكنها التموين والتحرك والتخفي والهجوم في منطقة سادتها عصابات محترفة في التهريب وتجارة البشر والمخدرات، وهي تجارة ليست جديدة على داعش بعد أن مارسها بشتى الأشكال في العراق وسوريا.
كان وجود الجيش الوطني الليبي منغصا لمشروع داعش في الشرق الليبي، فلم يتأخر التنظيم في إعادة تشكيل نفسه في الجنوب عبر "جيش الصحراء" من خلال عناصر فرت عقب هزيمته في سرت، لكن الملاحقات المستمرة ضده أفشلت مشروع إعلان "الدولة في ليبيا"، فلم يتبق منه اليوم غير مليشيات صغيرة في الغرب تتحرك في صبراتة والزاوية برايات مليشيات محلية تتخفى خلفها الرايات السوداء.
أدى تضييق الخناق هذا إلى إطلاق التنظيم لعنانه نحو الصحراء الكبرى مراهنا على تاريخه الدموي واسمه في استقطاب أنصار جدد في المنطقة، وعلى إيجاد موطئ قدم له وسط الفوضى التي أضحت سمة للصحراء، بعد أن سبقته تنظيمات أخرى أقل شأنا مثل القاعدة وأنصار الإسلام وغيرها من التنظيمات التي يعتقد داعش أنه يستطيع استتباعها أو هزيمتها بسهولة كما فعل في العراق وسوريا.
استغل داعش الوضع الأمني الهش في صحراء أزواد شمال مالي أولا، حيث تدور حرب متعددة الأطراف بين الحركات الجهادية المسلحة من جهة، وبين تحالف تقوده فرنسا ضد الإرهاب، والجيش المالي، فدخل براياته السوداء منزلا الهزيمة بالتنظيمات الصغيرة، ومستقطبا لآلاف المقاتلين من دول غرب أفريقيا، وبدأ التنظيم في الهيمنة مع رحيل القوات الفرنسية عام 2021، فدحر مناوئيه، وأخذ يتقدم من منطقة إلى أخرى على جغرافية واسعة بدأت من شمال مالي إلى جنوبه، عبورا إلى حدود النيجر وصولا إلى قلب بوركينافاسو، وبات يهدد كل دول الساحل وخليج غينيا.
كان داعش الذي عرف بقوته الإعلامية وقدرته على الانتشار في السابق، قد لجأ لسياسات مختلفة في أفريقيا، فدخل المنطقة بهدوء ونسج تحالفات مختلفة مع بعض التنظيمات في البداية، مثل أنصار الإسلام والمسلمين، وبوكو حرام وغيرها من التحالفات التي بايعت البغدادي في السابق، ولم يكن له أي نشاط إعلامي كبير، وبقي شبه متوار ومتلاش في تشكيلات مختلفة، لكنه ما إن استجمع قواه وتأكد من قدراته حتى أطلق آلاته الدعائية مجددا مؤكدا عزمه على التعبئة والانتصار في ظل غياب أي ردع دولي له، فعاد ينتج أفلاما لمعاركه ويبث بيانات بشكل يومي عن زحفه وانتصاراته.
لم تكن دول المنطقة (مالي وبوركينافاسو) في صحوة مما يحدث بسبب أوضاعها السياسية، كانت مالي قد خرجت من انقلابات عسكرية متوالية لا تزال أثارها قائمة، وكانت بوركينافاسو تعيش ذات السيناريو، وكان المجتمع الدولي مصدوما من خروج فرنسا المفاجئ وإخلائها للساحة أمام فلول الإرهاب.
اكتسح داعش مالي تماما، رغم استدعاء باماكو لقوات فاغنر الروسية، وتقدم جنبا إلى جانب مع أقوى التنظيمات المنافسة "نصرة الإسلام والمسلين"، وكانت بوركينافاسو شديدة الهشاشة، فتم اكتساحها تماما خلال أسابيع، ولم يبق فيها إقليم أو مدينة لم ينتهكها الإرهاب.
كان التحالف الدولي ضد داعش قد أنشأ "مجموعة التركيز الخاصة بأفريقيا"، منذ نهاية عام 2021 لكن وجود فرنسا في المنطقة جعلها وكيلا عن الجميع في هذه الحرب، فلقي التحالف الذي تقوده الدعم من الحلفاء فترة تواجدها، فأوقفت الطائرات بدون طيار ومروحيات القوات الفرنسية وحلفاؤها أي طموحات للتنظيمات الإرهابية، قبل أن يُصدم الجميع بخروجها احتجاجا على سلوك مالي التي لم تتوقف فيها الانقلابات العسكرية التي عكرت على باريس صفوها ومنعتها من تنفيذ أجندتها ضد الإرهاب.
واليوم، وبعد الخروج الفرنسي من المنطقة واكتفائها بالمراقبة عن بعد في النيجر، قرعت الأحداث جرس الإنذار لدى التحالف الدولي لمحاربة داعش الذي انعقد اجتماعه في الرياض هذا الأسبوع، ليخرج بقرارات كانت منتظرة، ومحل ترقب عالمي، خاصة بعد انفجار الوضع في السودان، حيث يتطلع داعش إلى إنشاء خلايا واسعة تمتد من السنغال غربا إلى البحر الأحمر شرقا.
كان اجتماع التحالف منتظرا، ليضع النقاط على الحروف بعد الفوضى التي أحدثتها التنظيمات الإرهابية في غرب القارة السمراء، والتي أخذت في التمدد بسرعة فائقة بعد أن أيقنت أنها في مأمن من الملاحقة، وبعد أن اعتقدت أن العالم قد صرف الأنظار عن منطقة ربما يعتبرها هامشية وغير مؤثرة في الأمن العالمي.
كان الاجتماع مهما في توقيته، فقد أكد إجماع وتصميم 84 دولة على ملاحقة داعش أينما كان، وأكد وزير الخارجية الأميركي على دعم الدول المتضررة من الإرهاب ومنها بوركينافاسو. لكن تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل الفرحان، بدت أكثر حماسة، بعد إعلانه "انضمام المملكة لرئاسة مجموعة التركيز المعنية بالشأن الإفريقي لمواجهة مخاطر تنظيم داعش الإرهابي"، وليؤكد على أن المملكة ستبذل كل جهد لملاحقة التنظيم المتطرف.. وأن على الجميع الحفاظ على استقرار المنطقة بقطع طريق العمليات الإرهابية التي تستهدف تجنيد أتباع جدد.
التحالف الدولي، بعد اجتماعه هذا، سيكون بحاجة إلى آليات عمل حقيقية، ورهانات نجاحاته كبيرة في المنطقة، لعدة أسباب، أهمها الخبرة الواسعة للحلفاء والإمكانيات التي يمكنهم توفيرها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وبقية الشركاء.
ولدى هؤلاء الشركاء من القوة والتأثير ما يفوق القدرات الفرنسية في المنطقة، والتي كان ينظر إليها على أنها مستعمر سابق أتى في ثوب وصي لحماية استثماراته وشركائه في المنطقة، وهو ما لا ينطبق على دول التحالف التي ليس لها أي من المصالح المذكورة، ففضلا عن نيران القوة العسكرية الأميركية المهابة التي لا تعرف الكلل، سيكون للتواجد السعودي كذلك تأثيره الكبير على دول المنطقة المسلمة، خاصة إذا شمل تحرير المنطقة من الإرهاب دعم أول ضحايا الإرهاب وهم اللاجئين في دول الجوار، والشبان الذين يسهل استقطابهم، من خلال جهود إعلامية وفكرية بلغات المنطقة، وعبر قنوات موثوقة ومؤثرة، حينها فقط ستأتي هذه الشراكة أكلها، وأمامها فقط يمكن لمد الإرهاب أن يبدأ في الانحسار.