ما موقف الحكمة من مغامرة خطرة كالحكم؟ الحكم هنا بالطبع ليس بمدلوله كسلطة، ولكن بحجّته كاحتكام إلى الحقيقة، للفصل في نزاعٍ، بروح قضاة، يعتنقون دين العدالة. فماذا يعني أفلاطون عندما يقول أن أساس كل حكمٍ في التحلّي بروح الصبر؟

اليقين أنه صَبرٌ على أكثر ما نكره، وهو: الألم، لأن البطولة دوماً في مدى قدرتنا على احتمال ألمٍ، هو عنوان حضورنا قيد هذا الوجود، حيث يهيمن نزيف الروح، الأقسى مفعولاً من نزيف البدن الفاني. والحكم بطبيعته، لم يُخلق لأناسٍ لم يحترقوا بجحيم الألم، لأنهم لن يعدلوا إذا لم يتكلّم فيهم الوجع، المؤهّل وحده بأن ينطلق بلسان الناموس: الناموس المخوّل بتصريف شئون الحقيقة، في وضعٍ تلعب فيه السلطة دور الوسيط، وليس دور البطولة، كما يحدث في الواقع الذي تغترب فيه الحكمة. فالحكيم، في الموقف من الحُكم، نموذجٌ مسكونٌ بجنين الألم، الذي كان له الفضل في تلفيق طينته الفذّة، التي ميّزته عن عوام الأنام، ليؤدّي واجباً رسالياً، يوافق المدرسة التي تخرّج منها، وهي تلك الضائقة المحكمة، المترجمة في حرفٍ حسّي، هو إحكام القبضة على الخناق، لإنتاج ذلك الألم المقدّس، الذي أبدع مفهوماً سامياً هو: الحكمة. فبوحيٍ من هذا الوجع يحتكم حكماء الإنسانية لخلق مناخ يتعايش فيه الإنسان في حضرة أخيه الإنسان، وهو ما لن يتحقق بدون سَنّ القوانين، كما ورثنا في سيرة سليمان الحكيم في واقع الشرق، أو صولون الحكيم في واقع الغرب، مع وجوب الحرص على شحن هذه القوانين بالنصيب المناسب من غنيمةٍ لا نتردّد في أن نعتمدها هنا كقيمة، كما الحال مع: العدالة.

وعندما نتناول أحجية أجيال، كما العدالة، فليس لنا إلّا أن نشدّد على مسألة المصدر، الذي نستطيع أن ننتدبه وصيّاً على تحقيق ما كان عنقاء مغرب منذ الأزل، فأعجز النظام البشري علي استنزاله من مقامه الفلكي المنيع، ليسعى في حضيضنا الأرضي، دون تحكيم الحكمة، التي أبت إلّا أن تخضعه لناموسها، عندما حقنته بالنصيب الشافي، المستعار من مدرستها، وهو: اعتماد نهج التضييق، أو الضغظ، أو العصر، أو الحصر، إلى آخر قائمة الأسماء الدالّة على استحداث الألم، بوصفه التعويذة الأعظم فعالية، في مغالبة خطرٍ، هو طبيعة طبيعيّة في واقعٍ، ارتضيناه لأنفسنا وجوداً، هنا يكتسب الألم الحصانة التي تؤهّله لارتياد واقع القوانين، لتهرع لنجدتنا اللغة هنا أيضاً، كي تبرهن لنا مرّة أخرى على هذه الخصلة التضييقيّة، الكامنة في جوهر هذا الترياق، الحامل لبذرة ألوهيّة هي العدالة، المعبّرة عن واجب الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان، في واقع كينونيّ محكومٍ بالإثم، ومشفوعٌ بخطر القبول بالوجود قدراً.

فكلمة قانون canon الموروثة من اليونانية، هي تركيبٌ ماكر، صاغه دهاة اللغة الأمّ، البدئيّة، ملفّق من con ، الدالّة على: القيد إجمالاً، أو على الأسر، عندما كان المنتصر في الحرب يكبّل المهزومين بالقيود، ليتحوّلوا تالياً، لا مجرّد أسرى، ولكن إلى عبيد، أي إلى أقنان، مع ملاحظة أن con هذه، هي في العربية قنّ حرفيّاً. أمّا  on فهي دلالة للإنتماء إلى عالم السموّ، أو كل مبدأ مقدّس، استعارة من معنىً حسّي هو العلوّ، كما تعتمده لغات العالم القديم بدايةً بالمصرية القديمة والليبية القديمة، ونهايةً باليونانية واللاتينية، لنستنتج تعبيراً مجازياً رفيعاً في البُنية وهو: القيد المقدّس، أو القنانة القدسية، كنايةً عن القانون، الذي اجتهد الدهاة الأوائل في تسويقه، باستنزال هوية القداسة في مفهومه، كي يهوّنوا علي أناسٍ، يدرون كم هم مستضعفون، وطأة الأغلال، المستعارة أساساً من وجوب القبول بالألم، الناتج عن قمعٍ يسكن طينة التضييق، الذي كان له الفضل في إنتاج الحكمة من رحم الألم.

هذه الشحنة المقدّسة من الألم، هي التي استودعها حكيم الإغريق صولون شرائعه، نزولاً عند رغبة القوم، بعد أن اشترط التزامهم بعدم تغيير القوانين لأمدٍ لا يقلّ عن عشرة أعوام، وَعْيَاً منه بطبيعة الأنام، الملولة، المتململة، المستنكرة لكلّ ما متّ بصلة لترياق الألم، ولم يخطيء، لأنهم مالبثوا أن استجاروا به، لكي يعمل ما بالوسع لتخفيف وطأة الألم الناجم عن القبول بالحياة في واقع اجتماعي، تتقاطع فيه المنافع، وتتلاطم في مسرحه الأهواء، فلم يجد مفرّاً من الفرار إلى مصر، لئلّا يضطرّ للنزول عند رغبتهم، فيغيّر بنود القوانين، بدل أن يضطرّهم لتغيير ما بأنفسهم، لتحرير ما بواقعهم، بدل التنازل عن العهد المبرم معهم، ليقينه بأن الخلاص ليس في إعادة النظر في حرف القوانين، ولكن السرّ في وجوب الانتصار على ضعفهم، بقبول الجرعة الشافية، من ترياق الألم، التي تسكن علقم القانون، بصفته نفحة محمومة من أنفاس معبودة باسم: الحكمة.