انتهت معركة الشتاء الكبرى في باخموت، كانت معركة النفس الطويل بين طرفيها، استغرقت 224 يوما، واتصفت بأنها عملية القتال الأشرس والأطول حول مدينة خلال الحرب التي اشتعلت بين روسيا وأوكرانيا؛ التي طالت بالأساس منطقتي دونتيسك ولوغانسك وامتداهما الجنوبي.
في البداية كان الغموض يحيط بما ستؤول إليه المعارك الدائرة في باخموت، لأن نسق حروب المدن يقترن دائما بتحولات ونتائج غير متوقعة، وبعد انتهاء معارك هذه المدينة يتبنى الآن كثير من الخبراء العسكريين رأيا بأن حسم المعركة لصالح الروس يشكل نقطة تحول فارقة في مسار الحرب الدائرة بين الطرفين، لم تكن معارك هذه المدينة تتصف بقواعد اشتباك المعارك البرية التقليدية، لأن عمليات الاشتباك في المدن بين القوات المتحاربة تنتج عنها معارك بالغة الصعوبة، حيث تبلغ حروب المدن درجة كبيرة من التعقيد ودائما ما تؤدي إلى خسائر فادحة بين طرفيها.
ربما لهذا السبب دفعت موسكو في معركة باخموت بالقوات شبه العسكرية لمنظمة "فاغنر" لخوض العمليات في هذه المدينة، فمن المعروف أن تورط القوات النظامية في حروب المدن يكلفها خسائر هائلة، ليس في الأفراد فقط ولكن في العتاد أيضا، وكثيرا ما تؤدى إلى انتكاسات تالية، من هنا دفعت روسيا بمليشيا فاغنر في معارك باخموت، وربما تمخضت للقادة العسكريين الروس فكرة إنشاء مثل هذه القوات بعد معارك غروزني، التي كبدت الجيش الروسي خسائر ضخمة، فحروب المدن ضد القوات المدافعة أقرب لحروب العصابات، لذلك تم الدفع بفاغنر لتكون ميليشيات ضد خفيفة ومرنة، ولاسيما أن قوات فاغنر ذات خبرة سابقة، بمشاركتها في عمليات أخرى في مناطق مختلفة من العالم.
تقع باخموت في شرق أوكرانيا في منتصف جبهة دونباس بين مدينة خاركيف الحاكمة وبحر أزوف، وتؤدى السيطرة عليها إلى اختراق وتجزئة قوات الدفاع الأوكرانية الى قسمين في هذه الجبهة.
السيطرة على هذه المدينة طبقا لما يقوله الروس ستشكل خطوة نحو مهمة التقدم في بقية إقليم دونباس، لكن في المقابل تحاول أوكرانيا التقليل من فقدان المدينة في إشارة إلى عدم أهمية قيمتها الاستراتيجية، والأمر فيما تقول كييف صحيح إذا حصر بالمدينة ذاتها، دون ربطها بجغرافية المنطقة.
يحسب للأوكرانيين صمود القوات المدافعة عن المدينة طوال المعارك التي امتدت قرابة 7 أشهر، كانت معركة كسر عظام، والشاهد أن الأوكرانيين نجحوا في بناء دفاعات قوية داخل المدينة وحولها، وإذا كان يحسب للمدافعين الصمود مدة طويلة في باخموت، إلا أن الروس نجحوا في النهاية في الاستيلاء على المدينة، وبسبب طول المدة أكتسب نصر الروس فيها قيمة رمزية، كما أدى الفوز في هذه المعركة إلى أن تحقق روسيا أخيرا أول تقدم كبير لها في هجومها الشتوي، لاسيما في أعقاب استدعاء مئات الألاف من قوات الاحتياط في العام الماضي.
أهمية باخموت بالنسبة إلى روسيا، أنها المنفذ شبه الوحيد لتقدم القوات الروسية في بقية دونيتسك، ويعنى الاستحواذ على هذه المدينة فتح الطريق نحو مدينتي "كراماتورسك" المجهزة تجهيزا دفاعيا قويا و"سلوفيانسك"، وهما من المدن الحيوية في مقاطعة دونيتسك، التي تشكل مع مقاطعة لوغانسك الملاصقة لها إقليم دونباس، وهو ما يعرف بحوض أوكرانيا الصناعي الكبير.
باخموت التي قال عنها الرئيس الأوكراني في مؤتمر الدول السبع أنها صارت في القلب، في أعقاب التأكد من سقوطها؛ الذي في الأغلب سوف يشجع الروس في الإقدام على الهجوم الكبير المرتقب في الصيف المقبل، لاسيما بعد أن أشارت بعض الوثائق المسربة التي لا يمكن تأييدها إلى أن الجيش الأوكراني فقد في هذه المعركة ما يزيد عن 30 ألف فرد من العسكريين الأوكرانيين، غالبيتهم من الجنود والضباط المدربين تدريبا جيدا، كان ملحقا بهم أفراد من قوات العمليات الخاصة.
استمدت باخموت أهميتها بالنسبة للأوكرانيين في أنها كانت قاعدة لإطلاق حمم دانات المدفعية المؤثرة نحو قاطني دونباس، ومن ثم تحولت معارك هذه المدينة إلى حرب استنزاف طاحنة، كما تمثلت الأهمية الاستراتيجية لمدينة باخموت في أنها كانت مركزا لوجستيا استراتيجيا هاما؛ لإمداد قوات أوكرانيا في الشرق على جبهة دونيتسك المتصارع عليها، وتشكل المدينة عقدة مواصلات رئيسية تبعد 65 كيلومترا في الشمال من مدينة دونيتسك، وتعتبر المركز الإداري للمقاطعة، وتبتعد قرابة 600 كيلومتر عن العاصمة كييف، لذا فهي تمثل حصنا للدفاع عن المدن الموجودة في منطقة المقاطعة.
صمود القوات الأوكرانية في باخموت كان ملحمة تحسب للجنود الذين تحملوا عبئها وضراوتها، لهذا يشير مستشار البنتاغون السابق "دوغلاس ماكغريغور" إلى ما سينتج عن هذه المعركة بقوله: "بالرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها النظام بقيادة زيلينسكي على مدار أشهر للحفاظ على الروح القتالية للجنود، إلا أنهم تكبدوا خسائر فادحة، مما سيؤثر سلبا على المزاج العام بين القوات الأوكرانية" واستطرد منوها: "هذه المعركة ستشكل نقطة تحول في الصراع على المدى البعيد".
السؤال الجوهري، الذي يطرح نفسه بقوة، في ساحة هذا النزاع هل يمكن أن يكون انتهاء معركة باخموت نقطة انطلاق نحو الحل السياسي لهذه الأزمة؟ أم هذه المعركة مع قرب حلول الصيف ستمنح موسكو زخما للتقدم على الأرض، ومحاولة السيطرة على باقي مدن إقليم دونباس ومناطق أخرى جنوبه وغربه، وربما ما هو أبعد من ذلك إن استطاعت.