وضعتِ العمليّة العسكريّة الرّوسيّة الخاصّة في أوكرانيا الأمنَ الاستراتيجيّ في العالم أمام تَحَـدٍّ هائل. هي، في واجهتها الخارجيّة، مواجهةٌ مباشرة بين دولتين: روسيا الاتّحاديّة وأوكرانيا؛ أو هكذا يُفْـتَرض أن تكون جغرافـيّـاً وسياسيّاً.
ولو هي تُرِكتْ لتبقى في نطاق هذه الحدود الضّـيّقة بين البلدين، لَمَا هدَّدتِ الجوارَ الأقْربَ والأبعد، ولا تزايدت المخافةُ من توسّع رقعة المواجهات إلى ساحاتٍ أخرى أبعد، ولَـكَانت - في أسوأ حالاتها - حرباً قاسية وغير متكافئة بين جيشين يقضي فيها المدنيّون والجنود من الجانبين، وتُسْتَـنْزَف فيها مواردُ الدّولتين من غير أن يُـلْقِيَ ذلك كلُّه سيّءَ النّتائج المباشرة على العالم الواقع خارج جغرافيا البلدين. غير أنّها، في ما وراء قشورها الخارجيّة، مواجهةٌ مفتوحة بين روسيا والغرب (الولايات المتّحدة الأمريكيّة خاصّة)، وليست أوكرانيا فيها إلاّ اسماً مستعاراً - وساحةً مستعارة - لتلك المواجهة، أو هكذا أرادت واشنطن والعواصم الغربيّة الأخرى أن تكون عليه معادلةُ هذه الحرب!
وضْعُ الحرب في هذا الإطار الأوسع (بما هي مواجهة بين الغرب وروسيا) هو ما يسمح بافتراض اتّصال آثارها بمجمل الأمن العالميّ؛ إذ نحن نتحدّث، هنا، عن قوًى نوويّة كبرى في معترك المواجهة؛ عن دُول عظمى يقع أمنُها، حكماً، خارج حدودها بآلاف الأميال. لذلك، لا شيء يضمن أن لا تُـنْهيَ روسيا - عند عتبةٍ مّا من المواجهة - حربَ الغرب عليها بالوكالة (= بالجيش الأوكرانيّ + الخبراء العسكريّين الأطلسيّين + الأسلحة الأمريكيّة والأوروبيّة المتدفّقة على أوكرانيا + وحدات المرتزقة من أصول أوروبيّة)، فتـنقل المواجهة معه إلى داخل أراضي «حلف شمال الأطلسيّ» كي تُؤْذيه كما هي تتأذّى منه، ومن أجل أن تُغـيّر معادلة المواجهة فتجعله يحاربها بجيوشه ويفقد في الحرب جنوده، ويخْسر بناهُ التّحتيّة ومقدّراته...
ليس احتمالاً مستحيلاً هذا الاحتمال، وقد لا يستجرّ الدّخولُ فيه حرباً نوويّـةً بالضّرورة لأنّ أحداً من المعسكرين لن يكسبها، ولأنّ القـدْرات التّدميريّـة لدى الفريقـيْن هائلةٌ من غير سلاحٍ نوويّ، وهي تكفيهما لإيقاع الأذى المتبادل ببعضهما. والأهمّ من هذه الاعتبارات كلِّها أنّ إمكان مثل هذا الاحتمال سينضج في الحسابات الرّوسيّة بالتّدريج، كلّما وجدت روسيا نفسها عرضةً لنسخةٍ ثانية من حرب الغرب عليها في أفغانستان - سنوات الثّمانينيّات من القرن الماضي - عبر وكلاء محليّين («المجاهدون الأفغان»). ومن المؤكّد أنّ روسيا لن تقبل بحرب استنزافٍ غربيّة عليها تشبه سابقتها قبل أربعين عاماً، ولا أن يخوض الأطلسيّ حرباً عليها مريحةً له، لا يدفع كلفتها مباشرة. ستجعله، في لحظةٍ مّا، يدفع ثمن تلك الحرب من طريق نقلها إلى عقر داره وسدِّ الذّريعة الأوكرانيّة نهائيّاً. ولن يمنع مثل هذا الاحتمال من الكينونة المتحقّقة سوى وقف الدّعم الغربيّ لأوكرانيا، وإنهاء الضّغط على النّظام الأوكرانيّ لعدم التّفاوض مع روسيا على شروط إنهاء العمليّة الرّوسيّة الخاصّة.
إذا لم يكن الأمن العالميّ مهدّداً، على نحوٍ فوريّ، بما يجري في ميدان المواجهة الرّوسيّة- الأوكرانيّة، فليست تلك حالُ الأمن الأوروبيّ؛ هذا الذي تعرّض لهـزّةٍ عنيفة لأوّل مرّة منذ نيّـفٍ وثلاثة أرباع القرن. حتّى حينما شهدت أوروبا على أضخم حدثٍ في القرن العشرين - بعد الحرب العالميّة الثّانية -؛ وهو انهيار الاتّحاد السّوڨييتيّ والمعسكر «الاشتراكيّ»، لم تكن حربٌ قد نشبت في المجال الأوروبيّ ولا حتّى رصاصة واحدة أُطْـلِقت (في ما عدا العدوان الأمريكيّ على صربيا وتدميرها). اليوم يختلف الأمر؛ الحرب ناشبة في قلب أوروبا بين بلدين أوروبيّين، وتشارك فيها دولٌ أوروبيّة، من وراء حجاب؛ وأيّ امتدادٍ لها خارج مسرحها الحالي لن يكون سوى في أوروبا التي تمثّل، بالنّسبة إلى أوكرانيا، قاعدة خلفيّةً وموردَ دعمٍ يتوقّف عليه استمرارُها في ساح المواجهة مع الوحدات العسكريّة الرّوسيّة في إقليم دونباس.
كانت أوروبا، دولاً ومجتمعات، أوّل من تلقّى النّتائج الفوريّة لانطلاق العمليّة الرّوسيّة الخاصّة: نقصاً في الوقود، وارتفاعاً في الأسعار، وتراجعاً في طاقة الإنتاج، فضلاً عن استقبال مـئات الآلاف من الأوكـران اللاّجئـين إلى بلدانها فراراً من القـتال. ولقد ساعدت حساباتُها الخاطئة - بالمشاركة في سياسة العقوبات الاقتصاديّة ضدّ روسيا- في مفاقمة نتائج الحرب عليها. غير أنّ داهية الدّواهي - بالنّسبة إلى دول الاتّحاد الأوروبيّ المنساقة وراء سياسات الإدارة الأمريكيّة- أنّ هذه الحرب التي يخوضها الغرب ضدّ روسيا، بالوكالة، لا يخوضها على أراضٍ أمريكيّة، بل في قلب أوروبا ولكن باسم غربٍ لا يتحمّل طرفٌ رئيسٌ فيه (الولايات المتّحدة الأمريكيّة) تبعات ما يقود إليه تصعيده للأوضاع!