"الماضي هو وطن روح الإنسان: يعصف بنا الحنين لاستعادة أحاسيس استشعرناها يوماً، بما في ذلك التوق لفجيعة فانية"
هنري هاينه
*****
"نستطيع أن نستصدر إدانه في حقّ الماضي، ولكن هيهات أن نفلح في تقويم الماضي"
المؤرخ الروماني تيتوس الليبي
*****
سواء أكان التراث استعارة من الثروة، أو العكس، إلّا أنّ كلا الملفوظتين مستعارتين، كما يبدو، من مصطلح لغوي ميثولوجيّاً بدئيّ، ألفناه في كلمة "توراة"، المستعارة بدورها من لسان التكوين، الدالّ على "التّميمة"، أو "الحصن"، أو "الحجاب"، أي تلك التعويذة، التي اعتادت أمم العالم القديم استخدامها لطرد الأرواح الشريرة، سواء أكانت مجسّدة في كيان محسوس، أو مسطّرة في رموز سحرية، نالت بالتجربة سلطةً سرّية؛ ممّا يعني أن مفهوم الديانة، ما هو في المنتهى سوى ترجمة لحكمة الميثولوجيا، التي تعامل الواقع البشري كمغامرة خطرة، محفوفة بمؤامرات غيبيّة، النجاة من شرورها رهينة الحرص على استعطاف الخفاء بقرابين روحيّة، إلى جانب القرابين الحرفية، لاعتمادها حصيلة ملفّقة في ما يمكن أن نسمّيه "حصن كينونة"، كناية عن الحزمة القدسية، التي اعتدناها في مجاميع الصحف، أو الألواح، أو ما شابه من الأجسام، الحاملة في باطنها لوزر وصايا، موروثة عن الأسلاف، تستقيم في متنٍ ديني، نسمّيه في العربية كتاباً، ترجمةً من "كتب"، التي لم تكن في الأصل سوى "قتب"، الدالّة في اللغة على اللوح الخشبي، الذي يكوّن سنداً لطرفيّ السرج، الموضوع على ظهر البعير، لأن الكتابة بدئياً كانت على ألواحٍ خشبيّة.
العقليّة الحرفيّة، في حمّى هوسها باحتكار الحقيقة، لم تكتفِ، في عصور الانحطاط، بتنحية التراث من مسرح الواقع، من خلال استنزال حكم الوثنية، المترجم في حكم "الجاهليّة" في حقّ عبقرية الماضي، ولكنّها أبت إلّا أن تضيف لسجلّها خطيئة أخرى هي الإطاحة بعرش الميثولوجيا برمّتها، كنتيجة طبيعية نجمت عن إعلان القطيعة مع ذاكرة الأجيال الفانية، كأنها تتعمّد التنصّل من تهمة هي حكمة التاريخ، الموروثة في مستودع الميثولوجيا، المستنزل من صحراءٍ آمَنَ بها الأبناء كبوّابة سماء، وإلّا لما احتكرت ميلاد النبوءات. وهي محنة ناجمة عن مصاب كان قدر كل دين توحيدي سبقتنا إليه ديانات أخرى، كلّما انقضى من العمر خمسة عشر قرناً، كما حدث مع الديانة اليهودية التي كان عليها أن تبعث نفسها، من هيمنة الفريسيّين، على يد المسيح، ليأتي القدّيس أوغسطين ليصيغ تعاليمها في عمله المرجعي الجبّار: "ملكوت الربّ"، الذي استنزل فيه تحريماً على الذاكرة من خلال الحكم على كل ما سبق المسيحية بالوثنية، ولم يستثنِ من هذا الحكم سوى قامة فلسفية وحيدة هي أفلاطون، بسبب شفيع جليل هو: التوحيد! وكان من الطبيعي أن تغترب الميثولوجيا الأفريقية السخيّة من واقع العالم المسيحي لخمسة عشر قرناً أخرى، قبل أن يقبل على هذا العالم المسيحي مبشّر جديد هو مارتن لوثر، ليعيد تصحيح وضع الركب، ليستعيد هذا العالم، بفضل تعاليمه، تراثه الغنيّ من منفاه الطويل، ليبدأ، بنعمة هذا الإصلاح، إعادة الاعتبار لروحه المغتربة، لتحقّق أوروبا يقظة تنويريّة، أطلقت عليها اسم: عصر النهضة. فهل آن أوان يقظتنا أخيراً، بعد أن سلخت تجربتنا الدينيّة من العمر خمسة عشر قرناً التقليدية، المنذورة للصحوة كما في اليهودية والمسيحية؟ هل ما نشهده في واقعنا منذ عقود، مع مطلع حلولنا في حرم الخمسة عشر قرناً، من وقائع محمومة، هو إرهاصات لمخاض الخلاص، الذي سنستعيد به روح اليقين الضائع، لنتمكّن من إعادة الاعتبار لتراث مجيد كتمنا فيه الأنفاس، باستنزالنا حظراً في حقّه، بدعوى وثنية مزعومة، قرأناها في وسم "الجاهلية"؟
رجم الذاكرة الروحية للأمّة بالجاهلية، بالمنطق، هو الجاهلية، بل هو التجديف في حقّ الحكمة، التي أبدعت الأحكام، ونصّبت من ميثولوجيا الأجيال حَكَماً على واقع الأمّة. وكان بالإمكان أن نتسامح في حقّ الحكم الصادر بإعدام ذخيرة هي ليست رهان في العلاقة مع الماضي وحده، ولكنها الرهان في العلاقة مع المستقبل. وحكيم القوقاز أبو طالب لم يخطئ عندما تغنّى: "مَن يطلق النار على ماضيه من فوّهة بندقيّة، سوف يطلق عليه المستقبل النار من فوّهة مدفع!". فالزلّة حدثت بسبب سوء فهم مميت لحقيقة التراث الميثولوجي بالتعامل معه كنبع. نبع في صيغة حرف هو شَرَك يستدرج إلى الأسر، المعبّر عنه في وصيّة هولدرلين الرائدة:
"عصيٌّ أن يهجر المكان،
ذلك الإنسان،
الذي استمرأ المقام بجوار النّبع".
ذلك أنّنا أمّة بريّة. أمّة ارتضعت أفيون الهجرة من حلمة أمُّنا الصحراء، وليس لنا أن نثق في واقع لا يحترف الاغتراب عن الواقع. ليس لنا أن نثق في مخلوق لم يعتنق الهجرة ديناً. وعندما يتعلّق الأمر بالينابيع، فإن الينبوع الذي ننهل منه ليس ينبوع الحرف، ليس ينبوع المياه، ولكنه ينبوع من صنف آخر. ينبوع ما راهنّا عليه منذ الأزل وهو: الروح. والثروة التي تسكن مستودع ذاكرتنا لا تمتّ لمعدن الحرف بصلة، ولكنها غنيمة الروح. ميثولوجيا التراث كنز ذي طبيعة روحيّة، ولهذا السبب هو نفيس، لهذا السبب هو في سيرتنا رهان، والتجديف في حقّه ليس تجديفاً في حقّ قيمة، ولكنه تجديفٌ في حقّ مبدع القيمة، ولن ينصفنا في محنة الاغتراب عن هذه الذخيرة سوى المنعطف التصحيحي، الذي استعادت بفضله أوروبا الصلة بحبل سرّتها الميثولوجية، لتفلح في التعافي من نكبتها التاريخية، التي غرّبتها عن جذورها الميثولوجية خمسة عشر قرناً، أطلقت عليها أيضاً اسم عصور انحطاط، فهل آن الأوان كي نحقّق أيضاً صحوة تصحيح، لنفلح في التكفير عن خطايانا في حقّ كلمة السرّ، التي بلبلت محنتها وجداننا فأقعدتنا البلبلة عن إبداع مستقبلنا لأمدٍ خرافيّ استغرق خمسة عشر قرناً؟
وكان الأمر سيهون فيما لو اغتراباً عن واقع، ولكنه كان اغتراباً عن حقيقة! لأن الحقيقة السليلة الشرعيّة للميثولوجيا، وليس للأيديولوجيا.
ذلك أن الطلقة، المترجمة في حرف "الجاهلية"، كانت تستهدف الماضي، ولكن البليّة أن القتيل هو المستقبل! يحدث هذا بسبب جهلنا بطبيعة العلاقة الحميميّة القائمة بين هذين القطبين الغيبيّين، اللذين اعتدنا أن نطلق عليهما نعتاً غامضاً هو الماضي والمستقبل، جهلاً منّا بالعهد القائم بينهما. وعلّ سيرة المهاجر القادم من فينيقيا، المدعو "زينون"، الذي نزل اليونان يوماً طلباً لعنقاء الوجود، المدعوّة في رهانات الأمم حكمةً، أكبر دليل على وحده هذين البُعدين اللذين ننتدبهما في واقعنا كضدَّين أبديَّين، كما برهنت تجربة هذا المريد، الذي لم يجد مفرّاً من الاحتكام إلى إله معبد دلفى، سعياً وراء الشورى، بعد أن أعيته الحيلة في الاهتداء إلى ضالّة مستقبله: الحكمة، ليسمع الوصيّة من فم عرّافة المعبد، التي تقول إن عليه أن يستجير بالأموات، إذا شاء أن يغتنم البُغية.
زينون، في قراءته للنبوءة، لم يبحث عن البُغية في بطون القبور حيث يهجع الموتى، ولكنه لجأ إلى بطون الكتب، المسكونة بثروات ماضٍ مسطّر بنزيف الأسلاف، فأحسن التقام اللقية، التي مكّنته من التحوّل مرجعاً، بل قبلةً، يحجّ إلى حرمها المريدون، الذين تتلمذوا على مذهبه الرواقي، بفضل الاعتكاف على استنطاق الماضي، المسكون بروح الإنسان الميثولوجي، بوصفه الرأي الغيبيّ الخالد، المعني وحده بترصّد نشاط الأمس، وهو يسري في شرايين اليوم، ليتواصل فيتغلغل في وجدان الغدّ، ليستوعبهما معاً، مختزلاً حمولتهما كليهما، ليكون له هذا الجنين، في الوجود، حُجّةً.
ملاحظة: ما يجب أن نعيه هو أن الدعوة المحمّدية لم تنبثق من عدم، ولكن شرارة الوحي فيها تنامت بتحريض ذلك الواقع الكلاسيكي، الذي هيمنت فيه العقلية التراثية التي تخلّت فيها رموز تنويرية كثيرة عن عبادة الأصنام، وأقلعت عن تعاطي الخمر، لتعتنق قيماً روحياً أخلاقية ترجمت الحنين إلى التوحيد، لتكون النبوّة منزلة الاستواء في معراج هذا الجنين. أي أنها امتداد لمخاض روحيّ، تعاطاه إنسان الماضي، في بحثه الوجيع عن الحقيقة، التي تسكن وجدان كل إنسان، فلا يهنأ بالاً ما لم يكتشف في نفسه ذلك الملاذ، الذي تُوّج بنداء "اقرأ"، كترجمان لبعثٍ من اغترابٍ طويل، وتجاهل هذا الواقع، الشجاع في مسائلة النفس، لتنتج حجر الحكمة، الذي صار الحجّة في ميلاد الحكمة، هو الجهالة، المعبّر عنها بـ"جاهليّة"، لعبت دوراً في تغريبنا عن تربة الجذور، التي كان لها الفضل في قدح زند الإلهام، الذي أقبل تالياً بالخلاص. فهل من أمل في حركة تنوير تعود بنا إلى واقع لم يكن أمّياً، لم يكن جاهلاً، كما يريد له الأوصياء على الحرف، كي ينعتوه بـ"الجاهلية"، يحجبوه عنّا بهذه التهمة، التي لن تعني في معجمهم سوى الوثنيّة: وثنيّة لم تكن لتكون سجيّة إنسانٍ تحدّى مناخاً يهيمن عليه الضلال، ليروّض في نفسه إيماناً بوجود حقيقة أعظم شأناً من باطل واقعٍ، الحرف فيه هو المعبود.
تلك كانت حكمة وليست جهالة. والحكمة التي أشعلت فتيل النبوّة، منزّهة عن الجهالة، لأنها أيضاً موقف مشفوع بإلهام، وإلّا لما كانت الحكمة القربان في سيرة كل مريد حقيقة.
الحكمة مرحلة في معراج النبوّة، وإلّا لما كان نزيف الروح لكليهما مكوساً.
ورموز الزمن الضائع، هم الرعيل الأوّل في رحلة الحكمة، ولم يسكنوا الذاكرة كي نتجاهلهم، أو لنجهلهم، ولكن لكي نتذكّرهم، إمتناناً منّا لهم على مآثرهم.