في أوقات تشديد السياسة النقدية، أي ارتفاع اسعار الفائدة الأساسية من قبل البنوك المركزية، يصبح هناك إغراء بالادخار للحصول على عائد جيد.

وهذا أحد أهداف واضعي السياسة النقدية، أي دفع الناس للادخار لسحب السيولة من السوق فيتراجع الطلب ويتقارب مع العرض في الاقتصاد. فالمهمة الأساسية للبنوك المركزية هي ضبط توازن الأسعار، أي الحفاظ على معدلات التضخم منخفضة. وحين يرتفع التضخم غالبا ما يكون نتيجة زيادة الطلب على السلع والخدمات عن المعروض منها. لا تتحكم السياسة النقدية في جانب العرض، فتعمل على خفض الطلب، والأداة الرئيسية للبنوك المركزية في هذا السياق هي رفع سعر الفائدة.

لكن، مع رفع البنوك المركزية حول العالم أسعار الفائدة على مدى نحو عام الآن لتصل إلى أعلى مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 إلا أن الناس لا تدخر كثيرا وما زالت السيولة عالية في الأسواق. يرجع ذلك لعدة أسباب، من بينها أن فترة أزمة وباء كورونا شهدت إقبالا على الادخار مع إغلاق الاقتصاد وعدم توفر سبل إنفاق أصلا. هذا إلى جانب السيولة الهائلة التي ضختها الحكومات في شكل مساعدات مالية مباشرة للجمهور وحزم دعم للشركات والأعمال. وبالتالي زادت المدخرات عالميا بقدر كبير يقترب من حد التشبع.

مع فتح الاقتصاد بعد الوباء شهدنا موجة إقبال على الإنفاق، فزاد الطلب بشدة أكثر من العرض وأخذت معدلات التضخم في الارتفاع الصاروخي. وتحاول البنوك المركزية كبح جماح التضخم برفع أسعار الفائدة الأساسية لعل زيادة كلفة الاقتراض تضغط على الطلب نزولا. لكن تلك الإجراءات لم تسفر عن تغيير كبير حتى الآن وظلت معدلات التضخم أعلى أضعافا من المستهدف من قبل البنوك المركزية.

في الوقت نفسه، لم يتغير وضع الادخار كثيرا. ليس فقط بسبب زيادة الادخار في وقت وباء كورونا، إنما أيضا لأن البنوك لا تمرر الزيادة في أسعار الفائدة إلى الجمهور المدخر بالقدر الذي تزيدها به على الإقراض. فمن مصادر دخل وأرباح البنوك الرئيسية هذا الهامش ما بين الفائدة التي تعطيها للعملاء على مدخراتهم وإيداعاتهم والفائدة التي تحصلها على القروض التي تقدمها لعملائها.

للتوضيح، إذا كانت الفائدة الأساسية من البنك المركزي ما بين 4 و5 في المئة – كما هو الحال الآن في أميركا وبريطانيا – فإن البنوك ترفع الفائدة على القروض بشكل كبير خاصة القروض الشخصية التي قد تصل الفائدة عليها إلى ثلاثة أضعاف الفائدة الأساسية، أي في هذه الحالة تزيد على 10 في المئة.

حتى قروض الرهن العقاري، التي تعد غالبا أقل فائدة، فتزيد الفائدة عليها عن 6 و7 في المئة. وهذا الفارق بين سعر الفائدة الأساسي والفائدة على القرض هو دخل وربح البنك المقرض. أما بالنسبة للمدخرين، فإن البنوك تستخدم أموالهم في الإقراض والاستثمار محققة هامش أعلى بكثير.

فالفائدة على الادخار في أغلب البنوك تقل بنحو النصف عن سعر الفائدة الأساسي، أي في المثال المذكور هي ما بين 2 و3 في المئة. وهكذا يحصل البنك على أموال المدخر بفائدة قليلة ويقرض تلك الأموال أو يستثمرها بفائدة كبيرة ويحصل على عائداته وأرباحه من هذا الفارق. وحين يكون الحديث عن مدخرات وإيداعات بالمليارات والتريليونات فإن هذا الهامش هو دخل وربح كبير جدا.

لذا يلجأ الناس الآن لسحب مدخراتهم من البنوك واستثماراها في أصول تحقق عائدا يساوي سعر الفائدة الأساسي أو يزيد. فمعدل العائد على الاستثمار في أسواق الأسهم والسندات، أو حتى الاستثمار في الذهب والعملات، يفوق بكثير الفائدة التي تقدمها البنوك على الادخار. وهكذا يقل الادخار في البنوك لصالح الاستثمار في أصول أخرى لا تفيد في أغلبها في توفر مصادر الائتمان (أي القدرة على الإقراض للنشاط الاقتصادي والإنفاق الاستهلاكي).

تحتاج البنوك إلى المدخرات لتمول بها قروض الشركات والأعمال من ناحية، ولاستثمارها في أصول مالية توفر لها الربح وإقراضها للمشروعات والأفراد وتسهم أيضا في زيادة نشاط السوق. ومع معدلات النمو الاقتصادي المتدنية حول العالم، هناك حاجة لظروف ائتمانية ميسرة لتشجيع النشاط الاقتصادي. كما أن الإنفاق الاستهلاكي يمثل القدر الأكبر من حجم النمو في الناتج المحلي الإجمالي، وكلما كانت كلفة الإقراض قليلة زاد الإنفاق الاستهلاكي وبالتالي ارتفع معدل النمو. فالمرء مثلا سيشتري سيارة أو غيرها من السلع بالتقسيط إذا كانت الفائدة على قرض الشراء معقولة، لكن في حالة ارتفاعها سيؤجل الشراء طالما السلعة أو الخدمة التي سيشتريها ليست ضرورية للحياة اليومية كالغذاء مثلا.

صحيح أن تراجع الادخار لصالح الاستثمار في أسواق الأسهم والسندات يفيد النشاط الاقتصادي، حيث تلجأ كثير من الشركات والأعمال لتوفير التمويل من تلك الأسواق. لكن الاستثمار في الذهب والعملات، وحتى في بعض صناديق الاستثمار ربما لا يفيد في تشجيع النشاط الاقتصادي.

هذا التوازن بين الادخار والإنفاق هو واحدة من المعضلات التي تواجه المسؤولين عن السياسات النقدية والمالية في الحكومات والبنوك المركزية. وتلك المعضلة واحدة من الاختلالات الهيكلية التي ساهمت أيضا في الأزمة المالية العالمية السابقة ويمكن أيضا أن تدفع مشكلة انهيار البنوك في أميركا إلى أزمة مالية جديدة يتردد صداها في العالم.