اعتاد الكاتب والسياسي اليساري الأميركي، آبتون سنكلير، المتوفي في عام 1968 أن يقول "من الصعب أن تجعل رجلاً يفهم شيئا ما، عندما يعتمد راتبه الذي يتلقاه على عدم فهمه هذا الشيء".

كرر سنكلير جملته هذه في أثناء حملته الانتخابية للفوز بمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا في 1934 في وقت صعب كانت أميركا، ومعظم العالم، تعاني فيها من الآثار المدمرة لما يُعرف بالركود الاقتصادي الكبير. نتج عن هذا الركود الكثير من الفقراء والعاطلين من العمل. كان جزءاً مهماً من برنامجه الانتخابي هو إلزام الدولة بمنح رواتب للعاطلين والفقراء بوصفه التزاماً اخلاقياً وقانونياً عليها، له جانب اقتصادي يساهم بتحريك عجلة الاقتصاد المتوقفة حينها عبر إيصال الأموال لأيادي المحتاجين وانفاقهم إياها في السوق. تشكل ضده تحالف واسع من صحافيين وحزبيين وأغنياء ومتنفذين شوهَ برنامجه وبث الأكاذيب بشأنه وشكك به كمرشح واعتبرَه داعية لنشر الشيوعية في البلد وتحويل كاليفورنيا الى "اتحاد سوفياتي" آخر! حركت معظم هؤلاء مصالحُ خاصة هددتها الأفكار السياسية للرجل بينها رفع نسبة الضرائب على الأغنياء لتمويل مساعدة الفقراء.

عبر جملته العميقة هذه، يثير سنكلير، الذي اعتاد على أن يصدم الرأي العام الأميركي بأمثلة تعسف الرأسمالية وظلمها للضعفاء ودعاواه لإصلاحها وجعلها إنسانية من خلال تبنيه الجريء لقضايا العدالة الاجتماعية، التناقضَ بين الحوافز المادية الشخصية، أي المصلحة الشخصية، والوعي بالمصلحة العامة والدفاع عنها. كثيراً ما تهيمن المصالح الشخصية للأقوياء والمتنفذين في المجتمع، خصوصاً إذا اتخذت هيمنتهم طابعاً سياسياً ومؤسساتياً، على فهم المصلحة العامة بحيث تُجير هذه الأخيرة وتُزيَّف لخدمة المصالح الشخصية للمتنفذين والأقوياء.

عراقُ ما بعد 2003 هو أحد أبرز الأمثلة على مثل هذا التزييف الخطير، إذ رَكَزت الأحزاب الحاكمة، خصوصاً عبر التحالف الشيعي-الكردي المبكر، على الهوية الطائفية والإثنية بوصفها معياراً منطقياً وطبيعياً لفهم المصلحة العامة وترتيب أوضاع البلد ومؤسساته على أساس إبراز هذه الهوية ومطالبة الآخرين والضغط عليهم، السنة تحديداً، كي يكون تمثيلهم لأنفسهم عبر الطائفة كمجموعة واحدة. أفاد هذا الترتيب الأحزاب الحاكمة التي يُفترض أنها تمثل مجتمعاتها المحلية التي تنتمي إليها وتدافع عن حقوقها لتترسخ في البلد سياسات الهوية الجماعية التمييزية على حساب المواطنة الفردية المتساوية. كانت المحاصصة الطائفية-العرقية هي المظهر الأشد وضوحاً لهذه السياسات. في السنوات الأولى انسجم معظم الجمهور مع هذا الفهم الهوياتي-المحاصصاتي للبلد ليمنح هذه الأحزاب الشرعية السياسية اللازمة عبر تصويته لها على مدى دورات انتخابية قبل أن يصحو متأخراً من السبات الهوياتي الذي فرضته هذه الأحزاب وغذته عبر سياسات وممارسات كثيرة. عبر هذا كله، تحولت المصالح الشخصية لزعماء الأحزاب والمتنفذين فيها والمستفيدين من هيمنتها على الموارد والقرار إلى مصلحة وطنية عامة باسم الديموقراطية وحماية التنوع وصيانة وحكم الأغلبية. حتى مع الخراب الكبير الذي صنعته هذه الأحزاب بعد نحو عشرين عاماً من الفشل المتواصل، ما يزال صعباً إقناع زعماء هذه الأحزاب والمتنفذين فيها والمستفيدين من هيمنتها على الموارد العامة وصناعة القرار إنهم مخطئون لأن مصالحهم الشخصية، بالنفوذ الكبير والمكانة العالية المتحققة لهم، تمنعهم من رؤية الخراب الذي تسببوا به ويواصلون في توسيع مداه والاستفادة منه. يكمن مصدر الفشل العراقي بعد 2003 هنا بالضبط: تزييف المصلحة العامة التي تهم كل المجتمع واستبدالها بمصالح فئوية لأحزاب انتهازية ومتغولة. أقصى ما يمكن ان تعترف به هذه الأحزاب وزعماؤها واتباعهم انه حصلت أخطاء غير مقصودة وأنهم يحتاجون فرصة أخرى في الحكم لتصحيحها!!

تشكل المصالح العامة، اي المتعلقة بمصالح المجتمع ككل، أحد أهم أعمدة هوية الجماعة أو الهوية الجمعية لأن الاتفاق العام، وليس الشامل او الكلي، على ماهية هذه المصالح وكيفية تحقيقها يصنع حساً بالأهداف المشتركة وبالتالي المصير المشترك الذي يتوحد حوله المجتمع. مثلاً يُعتبر توفر الخدمات الاساسية من كهرباء وصحة وأمن وبنية تحتية رصينة وفرص اقتصادية كثيرة ومؤسسات دولة يُوثق بها تخدم جميع مواطنيها بمهنية ودون تمييز من المصالح العامة الأساسية. بين اتفاق المجتمع على هذه المصالح وكيفية تحقيقها والحفاظ عليها تتشكل الكثير من القيم النفسية والاجتماعية والسياسية التي تجمع أفراد المجتمع وتشعرهم أنهم مجموعة واحدة ومتميزة عن سواها. إنها الصيرورة الطويلة والمعقدة بين الوعي بهذه الاهداف والاتفاق عليها من جهة وتحقيقها في الواقع من جهة أخرى التي تتشكل عبرها القيم العامة المشتركة ويمكن تسميتها بالهوية الوطنية. فمثلاً، الدفاع عن البلاد يقتضي وجود قوات عسكرية وأمنية مهنية ورصينة وسياسة خارجية تحمي سيادة البلد وتستند على تماسك داخلي داعم لهذه السيادة ومستثمر في نجاحها. عندما تجد الدولة نفسها في موضع الدفاع عن وجودها ومواطنيها بإزاء اعتداء خارجي، وهو ما يمثل أحد المصالح العامة المشتركة، يأتي أداء القوات المسلحة والالتفاف الشعبي حولها ورصانة القرار السياسي الداعم لهذا الاداء وصولاً الى هزيمة الاعتداء ليحقق هذه المصلحة العامة. عبر هذا كله تبرز قصص الشجاعة الفردية والتضحية الشعبية والأداء المتميز لتصبح كلها جزءاً من السجل الوطني العام الجدير بالاحتفاء به، أي المساهمة في تشكيل الهوية الوطنية.

لسوء الحظ، لم يحصل معظم هذا في تجربة العراق في مواجهة تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين بسبب سياسات الهوية وهيمنة المصالح الشخصية والحزبية على إدارة هذه المواجهة وليس الصالح العام المشترك. فعلى الرغم من وجود اتفاق عراقي عام على رفض الإرهاب وردعه، لم يكن هناك اتفاق بخصوص أسباب الإرهاب ومن هم الإرهابيون وكيف ينبغي مواجهتهم. فضلت الأحزاب الحاكمة، خصوصاً المنتمية للإسلام السياسي الشيعي وسط صمت سياسي كردي إشكالي يشبه التواطؤ، اختصار الإرهاب بمجموعة عراقية، السنة عموماً، شكلت تحالفاً عقائدياً ومصلحياً مع متطرفين غير عراقيين، ليُعمد الى تقسيم السنة العراقيين بين مشاركين فعليين في الإرهاب وداعمين له ومتعاطفين معه وساكتين عنه اختياراً. هكذا ظهر المصطلح الطائفي المريب حينها "حواضن الإرهاب" لتعميم التهمة على جميع السنة تقريباً إلا الذين تحالفوا مع الأحزاب الحاكمة علناً وخدموا أجندتها. بدلاً من ربط كثير من الإرهاب، وليس كله، بالحاضر ووقائعه أي بسياسات تمييزية ومظالم عميقة وتعسف وفساد أمنيين، أعطي له تفسير هوياتي، تاريخي وعقائدي، على أساس كراهية سنية متأصلة للشيعة بوصفهم شيعة. اختصرت هذا التفكير الكارثي مقولات وتفسيرات شاعت إعلامياً وشعبياً وسياسياً، تراثية الطابع، وخطيرة المحتوى، وطائفية الدلالة، مثل "القوم ابناء القوم" والصراع الدائم بين "أحفاد الحسين وأحفاد يزيد" وغيرها كثير.

لا يصنع مثل هذا السلوك المؤسساتي للدولة مصالحَ مشتركة ولا تجربةَ قيم عامة وطنية في إطار صيانة هذه المصالح، لكنه أفاد الأحزاب الحاكمة للبقاء في السلطة والتحكم بقرارها ومواردها عبر إقناع جمهور أغلبية خائف بالاصطفاف مذهبياً مع هذه الأحزاب والتصويت لها بوصفها حاميةً له من غدر "إخوة يوسف" ومؤامراتهم! رغم أن تجربة مكافحة الإرهاب في العراق انتهت أخيراً بانتصار صعب ومكلّف بعد تضحيات هائلة، الكثير منها كان يمكن تجنبه لو أتبعت الأحزاب الحاكمة سياسات عاقلة وحكيمة، ما تزال تركة هذه المكافحة مُختلفاً عليها عراقياً، ولسوء الحظ، ليست جزءاً من القيم العامة بين العراقيين التي يُفترض أن تتشكل من تجربة مشتركة جمعتهم وأشعرتهم بتشابههم واتحاد مصالحهم. فباستثناء الشعارات المعتادة برفض الإرهاب التي يتفق عليها العراقيون، هناك الكثير من الانقسام والاختلاف بخصوص اسبابه وضحاياه والمُحركين له والمستفيدين منه وآثاره!

في الحقيقة، التجربة العامة الوحيدة التي تشعر العراقيين بتشابههم واتحاد مصالحهم وشكلت قيماً مشتركة بينهم بعد 2003 هي النقمة المشروعة الناتجة من فشل الدولة، بأحزابها الحاكمة، في تقديم الخدمات لهم وتوفير الفرص الاقتصادية وبناء مؤسسات رصينة تخدمهم واحترام إنسانيتهم وصيانة حقوقهم بالتساوي كمواطنين، أي تسخير الدولة لخدمة المجتمع والدفاع عن مصالحه المشتركة المشروعة. ما حصل هو العكس تماماً: تسخير الدولة لخدمة الأحزاب الحاكمة وترسيخ مصالحها الفئوية. لا يمكن لهذا الأمر أن يستمر طويلاً لأسباب منطقية كثيرة لا تهتم لها عموماً الاحزاب الحاكمة. الحاجات العامة، في آخر المطاف، أقوى من المصالح الخاصة حتى المحمية حزبياً، خصوصاً عند توفر وعي شعبي بتناقض الاثنين. في العراق هناك مثل هذا الوعي المتصاعد الذي رسخته حركة احتجاجات تشرين، إذ تخضع هذه المصالح للكثير من التعرية والفضح وتواجه المزيدَ من الغضب الشعبي والأخلاقي ليصبح بقاؤها راسخة وناجحة أمراً مشكوكاً فيه.

خسر سنكلير الانتخابات في 1934 لكن حملته الانتخابية أثارت اهتماماً واسعاً في الولايات الأميركية الأخرى إذ تابعها الإعلام في كل البلد باهتمام كبير وغير مسبوق. بعد سنوات تبنت الحكومة الأميركية بعض نقاط برنامجه لتصبح جزءاً من منظومة العدالة الاجتماعية في البلد والقيم المشتركة العامة فيه. انتصر الرجل أخيراً رغم خسارته الانتخابية.